أضيف بتاريخ : 11-09-2025


الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع(*)

المفتي الدكتور عبدالله محمد الربابعة/­ دائرة الإفتاء العام الأردنية

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فيعد الاجتهاد ضرورة من ضروريات التشريع الإسلامي، لما للاجتهاد من دور عظيم في حفظ الدين والدنيا، حيث أصبح الاجتهادُ اليومَ حاجةً ماسةً ملحةً في ظل النوازل والمستجدات، واليوم حاجات الناس متجددة، وتحتاج إلى اجتهاد في هذه النوازل والمستجدات، كيف لا والاجتهاد يأتي ضمن منهج متكامل لحل الأمور التي لا نص فيها، لأن الاجتهاد يأتي في مورد لا نص فيه، (لا اجتهاد في مورد النص)، ويأتي الاجتهاد في القضايا العملية التي فهمها علماء المسلمين على مر العصور، وكذلك الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، حيث يمثل  الاجتهاد جانباً علمياً عملياً دقيقاً من جوانب المعرفة الشرعية، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ­ أعلم الناس بالحلال والحرام­: لما بَعَثَه إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي؟، فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَهُ[1]؛ وعليه فإِن الاجتهاد فِي الْإِسْلَام يعتبر دليلاً قوياً على أَن ديننَا الحنيف هُوَ الدّين الشَّامِل الخالد الوحيد الَّذِي يُسَايِر ركب الحضارة الإنسانية عبر العصور والأجيال، ويرحب بِكُل التغيرات الطارئة والمشاكل الناجمة من تجدّد الظروف والمصالح على اخْتِلَاف المجتمعات الإنسانية فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا ويعرض لَهَا حلولا مُنَاسبَة فِي ضوء الْأَحْكَام الْكُلية وَالْأُصُول الثَّابِتَة من الْكتاب وَالسّنة[2].

إِن مسَائِل الْعَصْر تتجدد ووقائع الْوُجُود لَا تَنْحَصِر ونصوص الْكتاب وَالسّنة محصورة محدودة، فَكَانَ الاجتهاد فِي الْأُمُور المستحدثة حَاجَة إسلامية ملحة لمسايرة ركب الْحَيَاة الإنسانية تَلْبِيَةً لهَذِهِ الْحَاجة، والمقصود من ذلك أن الإنسان عندما يبحث في الأدلة، يبحث في القرآن أولا،ً ثم يبحث في السنة، وكل منهما من ناحية الحكم واحد؛ لأن السنة متعبد بها كما يتعبد بالقرآن من حيث العمل؛ وعليه نعتمد ما جاء من دليل من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يحصل شيئاً من ذلك، ووجد إجماعاً أو حكاية إجماع واتفاق العلماء على ذلك؛ فإنه يأخذ به، وإن لم يكن شيء من هذا ولا هذا، فإنه يجتهد رأيه[3]؛ وعليه فإن الاجتهاد يكون في ما لا نص فيه، وهو باب واسع للتعبير عن الأحكام الشرعية والمستجدات والنوازل والوقائع المستحدثة، وقد قمت بتقسم هذا الموضوع إلى مقدمة ومبحثين:

المبحث الأول: الاجتهاد الفقهي المعاصر، وقد ذكرت فيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: التعريف بمصطلحات البحث

والمطلب الثاني: مواضع الاجتهاد ورفع الخلاف عند الحاكم

والمطلب الثالث: شروط الاجتهاد

والمطلب الرابع: الاجتهاد والتقليد

والمبحث الثاني: الاجتهاد بين فقه النص وفقه الواقع والفتاوى والنوازل والمستجدات، وقد ذكرت فيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: فقه النص وفقه الواقع

والمطلب الثاني: التلفيق في الاجتهاد

والمطلب الثالث: الفتاوى والنوازل والمستجدات

والمطلب الرابع: نماذج من الفتاوى والمستجدات والنوازل في فتاوى دائرة الإفتاء العام الأردنية نموذجاً، والخاتمة وقائمة المراجع

مشكلة البحث وأسئلته

بينت هذه الدراسة أن الاجتهاد الفقهي المعاصر ضرورة ملحة لمواكبة ضروريات الناس وحاجاتهم التي هم اليوم بأمس الحاجة إليها لبروز مستجدات كثيرة ومهمة، بسبب تطور الفهم الشرعي لبعض الأحكام والنوازل، وهذه يجب أن تواكب المتغيرات من الأمور المستجدة، والتي لها علاقة بواقع الأمة، وهي ما يعبر عنه اليوم بظهور النوازل والمستجدات، والتي لا يستطيع أحد التغافل عنها أو تركها للعوام، ولا بد للعلماء من أن تكون لهم كلمة في هذه النوازل والمستجدات، مع العلم أن النوازل في ازدياد بسبب تطور الحياة وظهور حاجات جديدة في المجتمعات التي نعيش، فهذا بحاجة ماسة لبيان الأحكام وإبعاد الناس عن متابعة  الهوى، وأن الفقهاء اليوم ملزمون ببيان هذه الأحكام الشرعية لإبعاد الناس عن مواطن الخلاف والنقد أو إبعادهم عن الأفكار المنحرفة في فتاوى النوازل، وحتى لا نترك أفكار الناس للعابثين في هذه الأحكام، وبالتالي يكون هناك دورا فاعلا لعلماء الأمة، من أجل حسم الخلاف في موضوع الاجتهاد إن وجد، حتى لا يدخل أحد في التعريف والحكم دون دليل، وهناك أسئلة ثلاثة لا بد منها:

1. ما أهداف وقيمة الاجتهاد الفقهي المعاصر في فقه الواقع والنوازل، وما مجالاته وخصائصه؟

2. كيف يمكن للاجتهاد الفقهي المعاصر أن يجيب عن التساؤلات بين فقه النص والواقع، واستخدامه كوسيلة من وسائل المستجدات المعاصرة، كفقه النوازل؟

3. ما الطريقة المثلى التي نعمل بها لبيان الأحكام الشرعية والمستجدات من خلال فقه النص وفقه الواقع؟

فرضية الدراسة

تحاول هذه الدراسة التحقق من فرضية بحثية إشكالية، تكمن في الاجتهاد الفقهي المعاصر في مواكبة النوازل والمستجدات المعاصرة.

أهداف الدراسة

تتمثل أهداف الدراسة في الأهداف الآتية:

1. التعرف على أهداف الاجتهاد الفقهي المعاصر، وبيان دور المؤسسات العلمية في بيان الأحكام الفقهية والفتاوى والنوازل الصادرة من دور الإفتاء في العالم العربي والإسلامي.

2. بيان أوجه الاجتهاد الفقهي المعاصر والأبحاث العلمية وفقه الواقع والمستجدات المعاصرة.

3. توضيح وتسهيل الصعوبات التي قد يتعرض لها المفتي في الاجتهاد الفقهي المعاصر، للوصول إلى فتوى صحيحة وأمنه، ضمن المنهج الفقهي الصحيح، للوصول إلى حكم اجتهادي شرعي معاصر له قيمته وله اعتباره، ويؤدي إلى أحكام فقهية ومستجدات علمية تتوافق مع المنهج الصحيح في اصدار الفتوى، وهذا يحتاج إلى ضوابط محددة للتعامل مع الاجتهاد الفقهي المعاصر.

4. وضع رؤيا بحثية تحفّز الفقه الواقعي المرتبط بالنوازل والمستجدات الفقهية، التي تحتاج إلى علماء ومجتهدون للوصول إلى حكم اجتهادي صحيح، يتوافق مع الواقع ولا يخالف النصوص الشرعية؛ لأنه لا اجتهاد في مورد النص. 

أهمية البحث

تنبع أهمية هذا البحث من أهمية ديمومة المحافظة على كينونة الاجتهاد الفقهي المعاصر، وحمايته من العبثية، التي قد تفسد هذا الاجتهاد، بالإضافة إلى ما يأتي:

1. مساعدة علماء الشريعة والمختصين في بيان قيمة الاجتهاد الفقهي المعاصر والمرتبط مع الواقع والقضايا المستجدة والتي تعرض على دور الإفتاء في العالم العربي والإسلامي، من خلال توفير عدد من الخيارات البحثية المتنوعة، والتي يمكن من خلالها الوصول إلى حكم اجتهادي فقهي صحيح يتوافق مع الحكم الشرعي ويتلائم مع فقه الواقع والمستجدات والنوازل.

2. تحقيق الشمول والتوازن في حماية الاجتهاد الفقهي المعاصر والأبحاث العلمية التي تصدرها مجامع الفقه ودور الإفتاء.

منهج البحث

تعتمد هذه الدراسة على المنهج التكاملي الذي يتخذ من الوصف، ثم الاستقراء، ثم تحليل أدوات منهجية للوصول إلى التقييم، والخروج بنتائج علمية، تكون إيجابه عن أسئلة الدراسة، ومنسجمة مع أهدافها؛ لتقدم حلولا لمشكلتها الرئيسة، ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

1. الوصف والاستقراء: حيث سيقوم الباحث باستقراء كافة مواضيع الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع في أطار الاجتهاد والفتاوى المواكبة للنوازل والمستجدات المعاصرة، وتصنيفها وفق منهجية محددة تتوافق مع مفردات الدراسة وأهدافها.

2. التحليل: حيث سيقوم الباحث بتحليل عناصر الموضوعات الخاصة بالاجتهاد الفقهي المعاصر، والتعرف على وسائل حمايتها من العبثية، وطرائقها المختارة شكلا ومضمونا، وقياس منهجها واستقلاليتها، والكشف عن التقليد والتكرار والنمطية في ذلك.

3. أداة الدراسة: تمثلت أداة الدراسة في بيان دور الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع في أطار الاجتهاد والفتاوى المواكبة للنوازل والمستجدات المعاصرة للإجابة عن الفتوى المتعلقة بحياتهم، وتتصدى للفكر المعادي لنظام الاجتهاد حتى لا يدخل إلى هذا المجال إلا أهل الاختصاص من العلماء الذين تنطبق عليهم شروط الاجتهاد.

الدراسات السابقة

هناك عدة دراسات تتعلق بموضوع الاجتهاد الفقهي المعاصر والمستجدات المعاصرة، لكن هذه الدراسات لم تستوعب الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع في إطار الاجتهاد والفتاوى المواكبة للنوازل والمستجدات المعاصرة، وكانت تتكلم عن بعض الجوانب الخاصة بالعملية الاجتهادية، ومنها ما يلي:

1. كتاب [القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد]، للمؤلف ابن مُلّا فَرُّوخ، محمد بن عبد العظيم، حيث تكلم عن بعض المسائل المتعلقة بالاجتهاد والتقليد، ولم يتكلم حول موضوع الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع.

2. كتاب [فقه النوازل في العبادات]، للمؤلف، خالد بن علي بن محمد بن حمود بن علي المشيقح، حيث تكلم عن بعض النوازل الخاصة بالعبادات ولم يتكلم عن بعض النوازل والمستجدات الحديثة

3. كتاب [الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين)]، للمؤلف الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد، حيث تكلم عن الاجتهاد بشكل عام ولم يتكلم خول موضوع الاجتهاد والنوازل

4. كتاب [المدخل إلى فقه النوازل من كتاب دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة]، للمؤلف عبدالناصر أبو البصل، حيث تكلم فيه حول المدخل الى فقه النوازل ولم يتكلم عن المستجدات الفقهية للنوازل

5. كتاب [آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد]، للمؤلف المطرَفي، عويد بن عيَّاد بن عايد، حيث تكلم فيه حول آيات العتاب في ضوء العصمة النبوية ولم يتكلم حول الاجتهادات الفقهية والنوازل وفقه الواقع

6. كتاب [إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد]، للمؤلف الكحلاني، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، (المتوفى: 1182هـ)، حيث تكلم عن إرشادات النقاد ولم يتكلم عن الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع.

المبحث الأول

الاجتهاد الفقهي المعاصر

لا يخفى على ذي لب أن الاجتهاد يأتي في المورد الذي لا نص فيه، حيث يكون الاجتهاد في النوازل والمستجدات الفقهية الحديثة التي ليس فيها نص أو ليس فيها اجتهاد سابق مضبوط، ويأتي الاجتهاد كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي إذا توفرت فيه الشروط اللازمة، من خلال كوكبة من العلماء العارفين بأحكام الفقه الإسلامي، والذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد؛ وعليه فإن الأحكام الفقهية والنوازل المستجدة تحتاج إلى علماء متخصصين، قادرين على استنباط الأحكام الفقهية من مصادرها الأصيلة الشرعية، المنبثقة عن الكتاب والسنة والاجماع والقياس وسائر مصادر التشريع الإسلامي، وبعد صدور حكم الاجتهاد من العلماء الثقات، فقد يلحق الاجتهاد بمصادر التشريع الإسلامي كما هو الحال عند بعض الفقهاء.

المطلب الأول: التعريف بمصطلحات البحث

التعريف بمصطلحات البحث العلمي ضرورة للدخول في البحث والتعريف بكل ما ذكر من المصطلحات التي يمكن التعريف بها، كوسيلة من وسائل ضبط التعاريف الواردة في ثنايا البحث.

أولاً: الاجتهاد: هُوَ استفراغ الوسع وبذل المجهود فِي طلب الحكم الشَّرْعِيّ، عقليا كَانَ أَو نقليا، قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ[4] أو هو بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد أي الطاقة، وقد جاءت عبارة ابن الحاجب التي نرى أنَّهَا أدت حق التعريف باعتباره تعريفاً جامعاً مانعاً هو قوله: الاجتهاد: بذل الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي[5].

ثانياً: الفقه: لغة: الفهم، واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، واستمداده من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وفائدته: امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه[6].

ثالثاً: التقليد: هو الأخذ والعمل بقول المجتهد من غير معرفة دليله، ولا يحتاج إلى التلفظ به، بل متى استشعر العامل أن عمله موافق لقول إمامه فقد قلده، وله شروط منها: أن يكون مذهب المقلد مدونا، وحفظ المقلد شروط المقلد في تلك المسألة، وأن لا يكون التقليد مما ينقض فيه قضاء القاضي، وأن لا يتتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل، وإلا فتنحل ربقة التكليف من عنقه[7].

رابعاً: النوازل والمستجدات، جمع نازلة، وهي في اللغة: هبوط الشيء ونزوله، وأما في الاصطلاح: فهي الحادثة المستجدة التي تحتاج إلى حكم شرعي، ومن كمال الشريعة أنها صالحة لكل زمان ومكان، فما من نازلة من النوازل إلا ولها حكم في الشريعة جاء بيان ذلك في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يعلم ذلك ويعرفه الراسخون في العلم، وهي  فرض من فروض الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، لأن تبين العلم وما يحتاج إليه الناس واجب على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فتبين العلم ونشره هذا واجب على العلماء وطلاب العلم[8].

خامساً: دائرة الإفتاء الأردنية، أُسست دائرة الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية في عام (1921م). وكانت منذ تأسيسها تعتمد في الفتوى المذهب الحنفي، والذي كان معمولاً به في أيام العهد العثماني، وكان المفتي يُجيب الناس على أسئلتهم سواءً منها ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، وكان يعيّن إلى جانب كل قاضٍ مفتٍ في المدن الكبيرة والصغيرة، ويستعين القاضي بالمفتي على حل المشكلات الاجتماعية، كما أن المفتي يُحيل إلى القاضي الأمور التي لا تدخل تحت اختصاصه مما يحتاج إلى بينات وشهود، وبقي الإفتاء على هذا الحال حتى تم تعيين الشيخ حمزة العربي مفتيًا للمملكة سنة (1941م) بإرادة سامية، و في سنة (1966م) صدر نظام الأوقاف الإسلامية واشتمل الفصل التاسع منه على تنظيم شؤون الإفتاء، وكان المفتي يرتبط بوزير الأوقاف، ولذا نص النظام على أن المفتي العام يعقد بالاشتراك مع مدير الوعظ والإرشاد اجتماعات دورية للمفتين لتوجيههم وتنظيم أعمالهم؛ وذلك لأن المفتين كانوا يقومون بالوعظ والإرشاد أيضًا، ونظرًا لظهور أمور جديدة في حياة المواطنين وتعدد المسائل وكثرة المدارس الفقهية فقد اقتضت المصلحة صدور قرار بتشكيل مجلس للإفتاء برئاسة قاضي القضاة، فكان المجلس يجتمع لبحث المسائل التالية: المسائل الجديدة، والمسائل التي تعم المجتمع، والمسائل التي تُحال إلى المفتي من جهة عامة كالوزارات والشركات ونحوها، وأما غيرها من المسائل، فكان يجيب عليها مفتي المملكة أو المفتون في المدن والمحافظات، ثم تطور نظام التنظيم الإداري لوزارة الأوقاف وتطور معه نظام الإفتاء، فتم استحداث دائرة للإفتاء سنة (1986م)، لكن بقي المفتي مرتبطًا بوزير الأوقاف والذي قد يكون في بعض الأحيان ليس من ذوي الدراسات الشرعية؛ ولذا ظل قاضي القضاة يرأس مجلس الإفتاء؛ لأن قاضي القضاة لا بد أن يكون مؤهلاً تأهيلاً شرعيًا[9].

المطلب الثاني: مواضع الاجتهاد ورفع الخلاف عند الحاكم

لا يخفى على ذي لب أن الاجتهاد يعتمد على شروط وضوابط، لا بد منها حتى يوافق الاجتهاد النص الشرعي، ويكون هذا الاجتهاد في المسائل التي يحتاجها الناس من النوازل والمستجدات، وبالتالي يكون حكم المجتهد به صحيحا، ومضبوطا، وفق منهجية علمية شرعية متوازنة، تتوافق مع النصوص الشرعية ولا تخالفها، فلا اجتهاد في مورد النص، ولا يستطيع أحد أن يرفع الخلاف الواقع إلا الحاكم، لما له من سلطة شرعية على هذا الأمر؛ ولهذا قيل الحاكم يرفع الخلاف.

وقد أشار القرافي إلى هذا المعنى بقوله: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنْشِئَ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ فَهُوَ مُنْشِئٌ لِحُكْمِ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَلْزَمُ وَالْإِبَاحَةُ فِيمَا يُبَاحُ كَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ الَّذِي ذَهَبَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا مُطْلَقًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْشَاءِ"[10]، وَأَمَّا مَوَاضِعُ الِاجْتِهَادِ؛ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى نَمَطِ التَّشَابُهِ؛ لأنها دائرة بين طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ شَرْعِيَّيْنِ؛ فَقَدْ يَخْفَى هُنَالِكَ وَجْهُ الصَّوَابِ مِنْ وَجْهِ الْخَطَأِ، وَعَلَى كُلِّ تقدير إن قيل بأن المصيب واحد؛ فَقَدْ شَهِدَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَوْضِعَ لَيْسَ مَجَالَ الِاخْتِلَافِ، وَلَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الِاخْتِلَافِ، بَلْ هُوَ مَجَالُ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، وَإِبْلَاغِ الْجُهْدِ؛ فِي طَلَبِ مَقْصِدِ الشَّارِعِ الْمُتَّحِدِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى وَفْقِ الْأَدِلَّةِ الْمُقَرَّرَةِ أَوَّلًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْكُلَّ مُصِيبُونَ؛ فَلَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَوْ مَنْ قَلَّدَهُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا الْفَتْوَى إِلَّا بِهِ[11]، وقد أجمع سلف الأمة كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية على وجوب طاعة أمير الجيش في مواضع الاجتهاد وأن الرأي يترك لرأيه، وبيّن رحمه الله أن مصلحة الائتلاف والجماعة ومفسدة الاختلاف والفرقة أعظم من مسائل جزئية، فلا شك أن المصلحة العامة الحاصلة بالجماعة والائتلاف والمفسدة الناتجة عن الفرقة والاختلاف لا تقابل بمسألة جزئية يقع الاجتهاد فيها[12].

وقد علق الإمام القرافي على هذا بقوله:" اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَرْجِعُ الْمُخَالِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ وَتَتَغَيَّرُ فُتْيَاهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، فَمَنْ لَا يَرَى وَقْفَ الْمُشَاعِ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ الْوَاقِعَةُ لِمَنْ كَانَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ نَفَّذَهُ وَأَمْضَاهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِبُطْلَانِهِ"[13].

 وقد أوضح الزحيلي وبين تصرف الراعي على الرعية بقوله: "إن نفاذ تصرف الراعي على الرعية، ولزومه عليهم متوقف على وجود الثمرة والمنفعة المترتبة على تصرفه، دينية كانت أو دنيوية، ولذلك فقد قعَّد أهل العلم قاعدة: "تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"[14].

 وهذه القاعدة كما يقول صاحب كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام أنها ترسم حدود الإدارات العامة، والسياسة الشرعية في سلطان الولاة وتصرفاتهم على الرعية، فتفيد أن أعمال الولاة النافذة على الرعية يجب أن تبنى على المصلحة للجماعة، باعتبارهم وكلاء عن الأمة في القيام بأصلح التدابير لإقامة العدل، ودفع الظلم، وصيانة الحقوق والأخلاق، وضبط الأمن، ونشر العلم، وتطهير المجتمع من الفساد، وتحقيق كل خير للأمة بأفضل الوسائل، وأكد هذا المعنى العز بن عبدالسلام بقوله: " يَتَصَرَّفُ الْوُلَاةُ وَنُوَّابُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ دَرْءًا لِلضَّرَرِ وَالْفَسَادِ، وَجَلْبًا لِلنَّفْعِ وَالرَّشَادِ، وَلَا يَقْتَصِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى الصَّلَاحِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلَحِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَلَا يَتَخَيَّرُونَ فِي التَّصَرُّفِ حَسَبَ تَخَيُّرِهِمْ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَبِيعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ، أَوْ مَكِيلَةَ زَبِيبٍ بِمِثْلِهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام: 152]، وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ فِي حُقُوقِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَوْفَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِالْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ"[15].

 وما كان من أمر الحاكم مما لا مصلحة فيه عامة، فالأصل أنه غير ملزم إلا إن غلب على الظن أن مخالفته قد تؤدي إلى فتنة وضرر، وأورد الغزالي الإجماع على حرمة مخالفة اجتهاد الحاكم فقال: "دل –أي الإجماع- على تحريم مخالفة اجتهاد الامام الأعظم والحاكم؛ لأن صلاح الخلق في اتباع رأي الإمام والحاكم"[16].

ويكون رفع الخلاف من الناحية العملية فقط، أما من الجهة العلمية، فحكم الحاكم وإلزامه ليس مغيرًا للأحكام الشرعية، ولا مرجحًا لقولٍ على آخر، ويبقى الخلاف علميا على ما هو عليه، يقول الخرشي المالكي: "ورفع الخلاف لا أحل حرامًا، يعني أن حكم الحاكم إذا وقع على وجه الصواب يرفع العمل بمقتضى الخلاف، بمعنى أنه إذا رفع لمن لا يراه ليس له نقضه، وإلا فالخلاف بين العلماء موجود على حاله، فمن لا يرى وقف المشاع، إذا حكم حاكم بصحته ثم رفع لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه، ولا يحل له نقضه، وكذلك إن قال شخص لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها، وحكم حاكم بصحة هذا النكاح، فالذي يرى لزوم الطلاق عليه أن ينفذ هذا النكاح ولا يحل له نقضه"[17].

 الخلاصة في هذا المطلب أن رأي الحاكم يحل الخلاف الواقع، لأن منصب الإمام ومنصب الراعي له سلطة شرعية، كما قال الفقهاء، وهذه السلطة تجعله يقضي بما هو ملزوم به شرعا، ويرفع الخلاف لو حصل ويفض النزاع المستحكم مثلا.

المطلب الثالث: شروط الاجتهاد

هناك أمور لا بد من توفرها في المجتهد، وهذه الشروط ذكرها العلماء حتى يكون المجتهد مصيبا في اجتهاده، ومعنى كونه مُصِيباً أي أَنه لَا يَأْثَم بالْخَطَأ؛ بل يُؤجر على الْخَطَأ بعد تَوْفِيَة الِاجْتِهَاد حَقه وإذا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ[18]؛ وعليه فلا بد من معرفة وبيان شروط الاجتهاد التي لا بد منها كي يكون الاجتهاد صحيحاً، فالاجتهاد الفقهي مثلاً يعد نوعاً من أنواع الاجماع، لأن الخلاف في مسائل معينة تحل إذا كان هناك إجماع من الفقهاء على ذلك، وهذا الاجماع يحتاج إلى اجتهاد علمي من علماء تتوافر فيهم صفات المجتهد وشروطه؛ وعليه يمكن أن نجمل أهم شروط الاجتهاد كما ذكرها العلماء، وهي كما يلي:

معرفَة اللُّغَة، بِحَيْثُ يُمكنهُ فهم لُغَات الْعَرَب والتمييز بَين الْأَلْفَاظ الوضعية والمستعارة وَالنَّص وَالظَّاهِر وَالْعَام وَالْخَاص وَالْمُطلق والمقيد والمجمل والمفصل وفحوى الْخطاب وَمَفْهُوم الْكَلَام، وَمَا يدل على مَفْهُومه بالمطابقة، وَمَا يدل بالتضمن وَمَا يدل بالاستتباع، فَإِن هَذِه الْمعرفَة كالآلة الَّتِي بهَا يحصل الشَّيء، وَمن لم يحكم الْآلَة والأداة لم يصل إِلَى تَمام الصِّيغَة، ثمَّ معرفَة تَفْسِير الْقُرْآن خُصُوصا مَا يتَعَلَّق  بِالْأَحْكَامِ وَمَا ورد من الْأَخْبَار فِي مَعَاني الْآيَات، وكما رأى من الصَّحَابَة المعتبرين كَيفَ سلكوا مناهجها وَأي معنى فَهموا من مدارجها، وَلَو جهل تَفْسِير سَائِر الْآيَات الَّتِي تتَعَلَّق بالمواعظ والقصص لم يضرّهُ ذَلِك فِي الِاجْتِهَاد، فَإِن من الصَّحَابَة من كَانَ لَا يدْرِي تِلْكَ المواعظ وَلم يتَعَلَّم بعد جَمِيع الْقُرْآن وَكَانَ من أهل الِاجْتِهَاد، ثمَّ معرفَة الْأَخْبَار بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأحوال النقلَة والرواة عَدولَهَا وثقاتها ومطعونها ومردودها والإحاطة بالوقائع الْخَاصَّة فِيهَا، وَمَا هُوَ عَام ورد فِي حَادِثَة خَاصَّة، وَمَا هُوَ خَاص عمم فِي الْكل حكمه ومنها معرفة كتاب الله تَعَالَى وَلَا يشْتَرط الْعلم بِجَمِيعِهِ بل مِمَّا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا يشْتَرط حفظه عَن ظهر قلب، ومنها معرفة سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا جَمِيعهَا بل بِمَا يتَعَلَّق مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ وَيشْتَرط أَن يعرف مِنْهَا الْخَاص وَالْعَام وَالْمُطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ وَمن السّنة الْمُتَوَاتر والآحاد والمرسل والمتصل وَحَال الروَاة جرحا وتعديلا، منها معرفة أقاويل عُلَمَاء الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ إِجْمَاعًا واختلافا، ومنها معرفة الْقيَاس فَيعرف جلية وخفيه وتميز الصَّحِيح من الْفَاسِد، ومنها كذلك معرفة لِسَان الْعَرَبيَّة لُغَة وإعرابا؛ لِأَن الشَّرْع ورد بِالْعَرَبِيَّةِ وبهذه الْجِهَة يعرف عُمُوم اللَّفْظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده وإجماله وَبَيَانه، ومن الشروط كذلك أَن يكون عِنْد المجتهد أصل يجمع أَحَادِيث الْأَحْكَام كسنن أبي دَاوُد وَيَكْفِي أَن يعرف مواقع كل بَاب فيراجعه إِذا احْتَاجَ إِلَى الْعَمَل بذلك الْبَاب، وَمِنْهَا أَن لَا يشْتَرط ضبط جَمِيع مَوَاضِع الْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَافات، بل يَكْفِي أَن يعرف فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يُفْتى فِيهَا أَن قَوْله لَا يُخَالف الْإِجْمَاع، مع العلم أن اجْتِمَاع هَذَا الْعُلُوم إِنَّمَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي يُفْتى فِي جَمِيع أَبْوَاب الشَّرْع، وَيجوز أَن يكون للْعَالم منصب الِاجْتِهَاد فِي  بَاب دون بَاب ومنها معرفَة أصُول الِاعْتِقَاد، وأَنه يَكْفِي اعْتِقَاد جازم وَلَا يشْتَرط مَعْرفَتهَا على طرق الْمُتَكَلِّمين وبأدلته الَّتِي يجردونها[19].

وقد ذكر صاحب كتاب إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد أن من شُرُوط الاجتهاد الَّتِي قررها الأصوليون فِيهَا بعض الِاخْتِلَاف من حَيْثُ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَيُمكن لنا أَن نقسم هَذِه الشُّرُوط قسمَيْنِ حَتَّى يحتويا كل مَا ذكر فِيهَا بالإيجاز الْقسم الأول الشُّرُوط الْعَامَّة شُرُوط التَّكْلِيف وَهِي الْإِسْلَام والْبلُوغ والْعقل، والْقسم الثَّانِي الشُّرُوط التأهيلية وَهِي تتنوع إِلَى نَوْعَيْنِ الأول الشُّرُوط الأساسية وَهِي معرفَة الْكتاب ومعرفَة السّنة ومعرفَة اللُّغَة ومعرفَة أصُول الْفِقْه ومعرفَة مَوَاضِع الْإِجْمَاع، والثَّانِي الشُّرُوط التكميلية وَهِي معرفَة الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة ومعرفَة مَقَاصِد الشَّرِيعَة، ومعرفَة الْقَوَاعِد الْكُلية ومعرفَة مَوَاضِع الْخلاف و الْعلم بِالْعرْفِ الْجَارِي فِي الْبَلَد ومعرفَة الْمنطق وعَدَالَة الْمُجْتَهد وصلاحه وحسن الطَّرِيقَة وسلامة المسلك والْوَرع والعفة ورصانة الْفِكر وجودة الملاحظة والافتقار إِلَى الله تَعَالَى والتوجه إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وثقته بِنَفسِهِ وَشَهَادَة النَّاس لَهُ بالأهلية ومُوَافقَة عمله مُقْتَضى قَوْله[20].

والخلاصة في هذا المطلب أن شروط الاجتهاد توفيقيه وليست توقيفيه، بمعنى أنه يمكن أن نجعل بعض الشروط المتوفرة في المجتهد، ويأتي فقيه أخر فيجعل هناك شروطا أخرى للاجتهاد، وهذه الشروط تتحقق في المجتهد، وخاصة ما يطلق عليه المجتهد المطلق، ومع تطور الحياة وموت العلماء صارت الحاجة اليوم ماسة إلى المجتهد الذي تتوفر فيه بعض الشروط الخاصة بالاجتهاد، ولا ضير في ذلك، لأنه يتعسر اليوم أن تتوافر كافة الشروط التي وضعها العلماء في المجتهد المطلق أو المقيد، فصار الأخذ بما هو موجود ضمن ضوابط شرعية مقننة.

المطلب الرابع: الاجتهاد والتقليد

لا يخفى على طالب العلم أن غالبية الناس اليوم مقلدون لعلمائهم، ويعتبر العالِم اليوم مرجعا لكافة المجتمع الذي يعيش فيه، والمقلدون يأخذون بفتاوى علمائهم الذين هم في الحقيقة علماء مجتهدون في المسائل التي لا نص فيها ولا يوجد بها حكم شرعي معروف، والاجتهاد والتقليد صنوان، وعليه فإن معنى التقليد لغة هو أنه مَأْخُوذٌ مِنْ الْقِلَادَةِ الَّتِي يُقَلِّدُ غَيْرَهُ بِهَا، وَمِنْهُ: قَلَّدْت الْهَدْيَ: فَكَأَنَّ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ قَدْ جُعِلَ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِ مَنْ قُلِّدَ فِيهِ، وحَقِيقَتِهِ التقليد هُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ عَلَى قَوْلهِ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، القول الأول: لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا، لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُ الْحُجَّةِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ خُصُوصُ ذَلِكَ السَّبَبِ وَعَيْنِهِ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمْ الْوَحْيُ فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْوَحْيُ أَوْ الِاجْتِهَادُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ، وَاجْتِهَادُهُمْ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الْقَفَّالَ بَنَى الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ مُقَلِّدًا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ عَنْ قِيَاسٍ؟ فَإِنْ كَانَ يَقُولُهُ -وَهُوَ الْأَصَحُّ- فَيُقَلَّدُ، لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَقَالَهُ عَنْ وَحْيٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي التَّعْلِيقِ ": لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ وَجْهَانِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَاذَا؟ قُلْت: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ السِّلْسِلَةِ " أَنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: فَإِمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى، وَخَطَّأَ الْمَاوَرْدِيُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ، وَلَكِنْ قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْر": أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَعْلِ الْقَبُولِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْلِيدًا وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ وَجْهِهِ"[21].

ومن معاني التقليد أيضاً أنه قبول قول قائل يغلب على الظن صدقه لحسن الثقة فيه[22]، وقد ذكر القرطبي أن الناس صنفان في موضوع التقليد، صنف فرضه التقليد، وهم العوام الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد التي حددت فيما قبل، وصنف ثان وهم المجتهدون الذين كملت لهم شروط الاجتهاد، وأما هل لهذا الصنف الثاني وهم المجتهدون أن يقلد بعضهم بعضا، ففيه نظر، فإن تقليد العوام شيء أدت إليه الضرورة، ووقع عليه الإجماع، لكن ينبغي أن يقال: يجوز للمجتهد تقليد المجتهد إذا كان أعلم منه، وترجح عنده حسن الظن به ترجحا يفضل عنده الظن الواقع له في الشيء عن اجتهاده[23].

وقد أشار الجويني إلى أن ارباب الأصول اختلفوا فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد فَذهب قوم مِنْهُم الى أن التَّقْلِيد هُوَ قبُول قَول الْقَائِل وَلَا يدْرِي من ايْنَ يَقُول مَا يَقُول، وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عندنَا فان التَّقْلِيد ينبئ عَن الِاتِّبَاع المتعري عَن أصل الْحجَّة، فَإِذا لم يكن فِي تَحْدِيد التَّقْلِيد مَا ينبئ عَن ذَلِك لم يكن الْحَد مرضيا أصلا، وَهَذَا الْقَائِل يَقُول اذا جَوَّزنَا للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد فقبول قَوْله تَقْلِيد لَهُ من حَيْث إن الْقَائِل لَا يدْرِي من ايْنَ قَالَه الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب بَعضهم الى أن التَّقْلِيد قبُول قَول الْقَائِل بِلَا حجَّة وَمن سلك هَذِه الطَّرِيقَة منع ان يكون قبُول قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقليدا فان حجَّة فِي نَفسه[24].

واما التقليد في الأصول فقد وضحه ابن تيميه بقوله: "هل يجوز للمقلد في التصديق بما يجب به التصديق الثاني لو لم يجز، فإذا وقع التصديق بتقليد أو استدلال فاسد هل يصح الإيمان ويعاقب على ترك الواجب أم لا يصح الثالث التقليد فيما لا يجب الايمان به ابتداء لكن لا يجوز القول فيه إلا بالحق كمسائل الخلاف الدقيقة.

وقد استدل ابن عقيل وغيره بآيات ذم التقليد وهي إنما ذمت من قلد في باطل واستدل بالاشتراك في طرق الأصوليات وأنها عقلية مشتركة كاشتراك المجتهدين في السمعيات وهذا ليس على اطلاقه بل في بعضها من الغموض أكثر مما في كثير من السمعيات وجحد ذلك مكابرة لا سيما وعندنا أن مدارك الصفات السمع، وهو قد جعل المدرك العقل فقط، وقد رد على ابن البنا بشيئين أحدهما أن الطمأنينة لا تحصل إلا بطريقها والثاني أن الطريق أكثر البعدين إذ هو رأس العمل في تحصيل العلم[25].

 وبناء على هذا: فإن الرجوع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم -والرجوع إلى الإجماعِ لا يسمى تقليداً؛ لأن كلًّا من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -والإجماع يعتبر حُجّة في نفسه بخلاف فتوى المجتهد فإن قوله ليس بحُجَّة في نفسه، ولا يعتبر دليلاً على الحكم؛ لأنه فتواه تحتاج إلى دليل يعتمد عليه"[26].

والخلاصة في هذا المطلب أن التقليد هُوَ قَبُولُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ عَلَى قَوْلِهِ، وبالتالي فالتقليد يكون في الأحكام التي لا يعرفها الإنسان، ويكون بتقليد العلماء في المسائل المختلفة سواء كانت في الأصول أو في المسائل الفقهية، والناس نوعان في التقليد، فالعوام وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد يقلدون العلماء، والعلماء يقلد بعضهم بعضا أي يقلد المجتهد مجتهدا أخر في مسائل معينة، وبالتالي يظهر موضوع التقليد في الاجتهاد؛ لأن المقلد من الصنف الأول وهو العوام يقلدون مجتهدا من العلماء المجتهدين العاملين.

المبحث الثاني

الاجتهاد بين فقه النص وفقه الواقع والفتاوى والنوازل والمستجدات

لا يخفى على ذي لب أن الاجتهاد يكون حيث لا نصَ موجودٌ، وهذا معنى قول الفقهاء لا اجتهادَ في مورد النص، وهذا الاجتهاد يكون في النوازل والمستجدات، والتي يصعب علينا أن نرجعها إلى القياس مثلاً، فيضطر المجتهد إلى إعمال الفكر في الوصول إلى حكم شرعي في المستجدات المتنوعة والتي تظهر بين الفينة والأخرى، وبناء عليه ظهرت الفتاوى في المستجدات الفقهية، وبرعت دائرة الإفتاء العام الأردنية في هذا المجال حيث ذكرت العديد من الفتاوى والمستجدات التي تهم الناس في حياتهم اليومية، لأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.

المطلب الأول: فقه النص وفقه الواقع

المقصود بفقه النص وفقه الواقع: دقة الفهم مع العلم في الوصول إلى الحكم الشرعي من مضانه الأصلية، ويجعل الفقيه متبحرا في أعماق النصوص للوصول إلى حكم شرعية عملي من أدلته التفصيلية، وهذا ما يعبر عنه بالاستنباط، وهذا الاستنباط هو للحصول على حكم شرعي من مضانه الأصيلة.

ويظهر فقه النص في المسائل المستجدة والمسائل التي لم يرد نص واضح فيها، فالمجتهد بمنزلة المترائي للهلال قد يراه لقوة بصره، وقد لا يراه لضعف بصره، وهكذا الحكم الفرعي، قد يحصل للمجتهد الصواب لقوة بصيرته، وقد يفوت عليه لِضَعْف عرض لَهُ، قال الله تعالى: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا).

ويأتي فقه النص في بيان اختلاف فهوم المجتهدين في النص الواحد مثلا، ومن أَنواع هذا الاختلاف، ما يلي:

أ. اختلاف فهوم المجتهدين في تطبيق معايير القبول والرد على المروي فيحصل الخلاف في ثبوته.

ب. اختلاف فهوم المجتهدين في فقه النص المحتمل لأَكثر من وجه من جهات كثيرة، تتعلق بالمبنى والمعنى، من حيث مدلولات الأَلفاظ واختلاف حقائقها لغة وشرعاً وعرفاً، ومن حيث التكييف الفقهي في الأَصل الذي تُرَدُّ إِليه المسألة الفرعية، ومن هنا جاء بيان الفقهاء لما يسمونه: " ثمرة الخلاف " أو " أَثر الخلاف " وبيان " أَثر الخلاف في تكييف الأَحكَام الفقهية " من المهمات العلمية الموجودة في تفاريق كلامهم، ولابن خلدون لفتة نفيسة عنه في مقدمته: في الفصل الخامس عشر من الباب السادس، ومن حيث التعارض، والمرجحات، والِإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، والناسخ والمنسوخ.

ج. اختلاف لسبب خارج عن النص وهو اختلاف في فهم الواقع.

د. اختلاف بسبب اختلاف حال المكلف، فقد يكون السبب خارجاً عن اختلاف الفهم من فقيه إلى فقيه، وإنَّما لاختلاف أَحوال الِإنسان-ذاته-المتلبس بالواقعة الذي يتراوح حاله بين الضرورة والحاجة، والتوسع والرفاهية، فيحف بهذا من الأحوال ما لا يحف بالآخر فيتفاوت الحكم من مراتب التكليف في حق كل منهما.

هـ. اختلاف المفاهيم في أي القولين أَولى بالصواب، مع الاتفاق على أَصل المشروعية[27]، ولا بد من فقه الواقع الذي يتلائم مع النص، ومعنى فقه الواقع معرفة الواقعة التي تتكلم فيها، وفيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو اجتهاد[28].

ومعرفة الواقع والتفقه فيه هو المنطلق إلى معرفة حكم الله ورسوله في هذا الواقع " فههنا نوعان من الفقه، لا بد للحاكم منهما، فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ... ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع[29].

وفقه الواقع يجمع بين الفقه بمعناه العام وهو الفهم، ومعناه الخاص المتعلق بمعرفة الأحكام الشرعية من الأدلة النصية، وإذا أضيف إلى الواقع أصبح المراد:" فهم النوازل والمتغيرات الجديدة في الحياة والأفراد والمجتمعات وتصورها ومعرفة حكمها في الشريعة الإسلامية[30].

الخلاصة في هذا المطلب هو أن فقه النص يأتي بعد فهم الواقع الشرعي الذي يعيشه الإنسان، ومن خلال الواقع الذي يبني الفقيه الحكم عليه من مضانه ومن النصوص الشرعية وفهموها، ويظهر فقه النص كما أسلفنا في المسائل المستجدة والمسائل التي لم يرد نص واضح فيها، فالمجتهد يبني حكمه على المسائل المستجدة بواسطة إعمال النظر والاستنباط للوصول إلى حكم شرعي يتوافق مع مجمل النصوص، ومعتمدا على الفهم الدقيق من الكتاب والسنة والاجماع والقياس وغيرها.

المطلب الثاني: التلفيق والاجتهاد

التلفيق عند كثير من الناس هو البحث عن فتوى خاصة به في واقعة يعيشها هذا الإنسان، ويبحث في كل المسائل، ويسأل أهل الذكر حتى يجد الجواب المناسب له ويتماشى معه وهو ما يسمى اليوم البحث عن المسائل المستجدة وتتبع الرخص فيها للحصول على جواب له.

ومعنى التلفيق هُوَ تتبع الرُّخص عَن هوى[31]، ويُطلقُ التلفيقُ في الفقه وأصوله ويُرادُ به في الغالب: الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا تُوافقُ قولَ أحدٍ من المجتهدين السابقين، وحين التمثيل للتلفيق المختلَفِ فيه يذكرون التلفيقَ الناشئَ عن الخلاف في شروط الفعل، أو في مبطلاته، ويعدُّون ذلك مسألةً واحدةً، مع إمكان أنْ يُقالَ إن كلَّ شرطٍ يُعدُّ مسألةً مستقلّةً، مثاله: أن يتوضأ فيمسحَ على شعراتٍ من رأسه تقليداً للشافعيّ، ويمسَّ امرأةً فلا يتوضّأُ تقليداً لأبي حنيفةَ، ثم يُصلّي بهذا الوضوء، فهذه الصلاةُ لا تصحُّ على مذهب أبي حنيفةَ؛ لعدم مسح ربع الرأس، ولا على مذهب الشافعيّ؛ لكون الوضوء عنده قد انتقض بلمس المرأة، ويُطلق التلفيقُ على أعمّ من هذا المعنى عند بعضِ العلماء، حيثُ أدخلوا فيه أخذَ المقلِّد في مسألةٍ بمذهب إمامٍ، وفي مسألةٍ أخرى بمذهب إمامٍ آخَرَ، حتى ولو لم يكنْ بين المسألتين تلازمٌ، وهذا لا يُمكنُ منعُه، إلاّ على قول مَن يُوجبُ على المقلِّد الالتزامَ بمذهبٍ واحدٍ في جميع ما يفعلُ أو يتركُ، وهو قولٌ فاسدٌ لا دليلَ عليه، أوقع فيه الإفراطُ في التقليد، وقد قام الإجماعُ في عهد الصحابة والتابعين على أن للمقلِّد أنْ يسألَ مَن شاءَ من العلماء، وأن مَن سأل عالماً في مسألةٍ لا يُمنعُ من سؤال غيره في مسألةٍ أخرى، وقد يُطلَقُ التلفيقُ على أخذ المجتهد بقولٍ جديدٍ مركَّبٍ من قولين مختلفين في  المسألة، وهو ما يُسمّيه بعضُهم: «إحداث قولٍ جديدٍ»، وقد يُطلَقُ التلفيقُ على فتوى المجتهد بقولٍ مركَّبٍ من قولين مع عدم اعتقاد رُجحانه، وإنما يُفتي به تخليصاً للمستفتي من ورطةٍ وقع فيها، وهذا يدخلُ فيما يُسمّى بـ (مراعاة الخلاف)، والصحيحُ: أن المجتهدَ إذا رأى أن هذا القولَ أرجحُ في حقّ هذا المستفتي مراعاةً ليُسر الشريعة، ورفعاً للحرج، فيكونُ قد ترجّحَ عنده القولُ في هذه الصورة بخصوصها، وفتواه حينئذٍ صحيحةٌ[32].

وَمَا يزعمه من منع التلفيق من أَن كلا من الْمُجْتَهدين اللَّذين قلدها مثلا يَقُول بِبُطْلَان صلَاته الملفقة مثلا لَو سُئِلَ عَنْهَا بِانْفِرَادِهِ فمغالطة مدفوعة بِمَا لَا يسع هَذَا الْمحل بَيَانه.

وإجمال ذَلِك أَنه إِنَّمَا يَقُول لَهُ إِنَّهَا بَاطِلَة إِن كنت أخذت فِي ذَلِك الْأَمر الَّذِي حكمت أَنا بِبُطْلَانِهِ من أَجله بمذهبي، وَأما إِن كنت قلدت فِيهِ غَيْرِي فَلَا أحكم ببطلانها حِينَئِذٍ فِي حَقك إِذْ كنت متمسكا بقول مُجْتَهد، وَكَذَلِكَ يَقُول لَهُ الآخر وَالْآخر وَالْآخر فَبَطل إِطْلَاق قَوْلهم يمْنَع التلفيق بِأَن كلا من الْمُجْتَهدين حَاكم بِبُطْلَان صلَاته، مثلا بل يُقيد الحكم مِنْهُ ببطلانها بِمَا إِذا كَانَ متمسكا فِيهَا بمذهبه فِيمَا يرى ذَلِك الْمُجْتَهد بُطْلَانهَا بِسَبَب فعله أَو تَركه[33].

وقد اشترط بعض العلماء لصحة التلفيق شروطاً، أهمها:

1. أن لا يخالف إجماعاً أو نصاً من كتاب أو سنة.

2. أن لا يكون بقصد التحلل من عهدة التكليف[34].

وقد علق الدهلوي على هذا وأشار بقوله:" اعْلَم أَن الْوَاجِب على الْمُجْتَهد فِي الْمَذْهَب أَن يحصل من السّنَن والْآثَار مَا يحْتَرز بِهِ من مُخَالفَة الحَدِيث الصَّحِيح واتفاق السّلف وَمن دَلَائِل الْفِقْه مَا يقتدر بِهِ على معرفَة مَأْخَذ أَصْحَابه فِي أَقْوَالهم وَهُوَ معنى مَا فِي الفتاوي السِّرَاجِيَّة لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُفْتِي إِلَّا أَن يعرف أقاويل الْعلمَاء وَيعلم من أَيْن قَالُوا وَيعرف معاملات النَّاس؛ فَإِن عرف أقاويل الْعلمَاء وَلم يعرف مذاهبهم، فَإِن سُئِلَ عَن مَسْأَلَة يعلم أَن الْعلمَاء الَّذين يتَّخذ مَذْهَبهم قد اتَّفقُوا عَلَيْهَا فَلَا بَأْس بِأَن يَقُول هَذَا جَائِز وَهَذَا لَا يجوز، وَيكون قَوْله على سَبِيل الْحِكَايَة وَإِن كَانَت مَسْأَلَة قد اخْتلفُوا فِيهَا فَلَا بَأْس بِأَن يَقُول هَذَا جَائِز فِي قَول فلَان، وَفِي قَول فلَان لَا يجوز وَلَيْسَ لَهُ أَن يخْتَار، وَإِن لم يكن من أهل الاجتهاد لَا يحل لَهُ أَن يُفْتِي إِلَّا بطرِيق الْحِكَايَة فيحكي مَا يحفظ من أَقْوَال الْفُقَهَاء، وَعَن أبي يُوسُف وَزفر وعافية بن زيد أَنهم قَالُوا لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن قُلْنَا"[35].

الخلاصة كما يراه الباحث أن التلفيق يجعل الإنسان يبحث عن الفتوى التي يريدها، وبالتالي لا بد من معرفة الحكم الشرعي عن طريق أهل العلم ولا داعي للبحث عن أكثر من عالم للوصول إلى الفتوى التي يريدها السائل، وبالتالي فالاجتهاد من العالم للوصول إلى جواب شرعي، بعد أن يقوم العالم بالبحث للوصول إلى الصواب، ولأن العالم اذا اجتهد في معنى الحكم الشرعي وأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد وهذا معنى الاجتهاد كما يقوله الشوكاني: " أَن كل مُجْتَهد مُصِيب، بِمَعْنى أَنه لَا يَأْثَم بالْخَطَأ بل يُؤجر على الْخَطَأ بعد تَوْفِيَة الِاجْتِهَاد حَقه، وَلم يقل أَنه مُصِيب للحق الَّذِي هُوَ حكم الله فِي الْمَسْأَلَة فَإِن هَذَا خلاف نطق بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ إِن اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر[36].

المطلب الثالث: الفتاوى المواكبة للنوازل والمستجدات

المسائل المستجدة في كل عصر تحتاج إلى لجنة من علماء ثقات لبيان الحكم الشرعي في النوازل والمستجدات، وعليه فلا بد من معرفة معنى هذه النوازل والمستجدات التي تظهر بين الفينة والأخرى.

 النوازل: جمع نازلة، وهي في اللغة: هبوط الشيء ونزوله، والنازلة لغة: هي المصيبة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس[37].

وأما في الاصطلاح: فهي الحادثة المستجدة والمسائل والوقائع التي تحتاج إلى حكم شرعي، وتشمل جميع الحوادث التي تحتاج إلى فتوى تبينها سواء أكانت هذه النوازل كثيرة حدوثها أم نادر الحدوث وسواء كانت قديمة أو جديدة[38].

فالأحداث أو القضايا التي تحصل لا بد فيها من معرفة حكم الله سبحانه وتعالى، والنوازل تعرف في الاصطلاح وتطلق على المسائل والوقائع الحادثة الجديدة التي تحتاج إلى حكم شرعي، وليس هناك كتاب مخصص لمنهجية النوازل،  ولكنها وقائع جديدة لم يسبق فيها نص أو اجتهاد وهي كذلك الأمور التي حصلت ولم تكن موجودة في السابق، فالوقائع هنا تشمل كل ما يقع للناس من مسائل في أمورهم العلمية والاعتقادية، التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد): لأنه إذا كان فيها نص فإنها لا تعتبر نازلة تحتاج إلى حكم شرعي، وكذلك إذا كان فيها اجتهاد فإنها لا تعتبر نازلة، وليست أمراً جديداً وحادثاً[39].

فما من نازلة من النوازل إلا ولها حكم في الشريعة جاء بيان ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك ويعرفه الراسخون في العلم ودليل ذلك:

الماء الذي تغير بالصابون وغير ذلك ... إلخ.

فهذا نقول يأخذ حكم إن كان هذا الصابون الذي تغير به الماء شيء يسير بحيث أنه لا يغير الماء لا يسلبه اسم الماء المطلق ولا يغلب على أجزائه، فنقول أيضاً هو طهور يرفع الحدث ويزيل الخبث وإن كان هذا المغير سلبه اسم الماء المطلق وغلب على أجزائه، فنقول بأنه لا يرفع الحدث وأما كونه يزيل الخبث، فهذا يزيل الخبث، والحنفية هم أوسع المذاهب في هذه المسألة يعني من جهة رفع الحدث ومن جهة إزالة الخبث فهم يرون أن الماء الذي تغير بشيء من المنظفات كالصابون وغير ذلك من المسحوقات الآن التي توجد ... إلخ يقولون حتى ولو غلب على أجزائه وحتى لو نقله عن اسم الماء المطلق يقولون هذا يرفع الحدث ويزيل الخبث.

مسألة: هل يشترط الماء في إزالة الخبث أو نقول بأن الخبث يزول بكل مزيل:

فيه قولان للعلماء رحمهم الله:

القول الأول: أنه يشترط الماء لإزالة الخبث، قال به أكثر أهل العلم من الشافعية والمالكية والحنابلة.

ومن أدلتهم حديث أنس وأبي هريرة في قصة بول الأعرابي في المسجد "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذنوب من ماء فأراقه عليه" [متفق عليه].

منها: حديث أسماء رضي الله تعالى عنها في الحيض وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) [متفق عليه]، وغير ذلك من أدلتهم[40].

ولأن النوازل والمستجدات غير متناهية، والنصوص محدودة متناهية، فكان من رحمة الله بعباده أن التشريع بأمور كلية، تستلهم الواقعات، ويسلك أَهل الذكر إليها طرائق إلى الاجتهاد، ببذل الفقيه الوسع في استخراج وتحصيل الحكم من الدليل الشرعي بالشورى، والقياس، وأَدوات النظر والاستنباط، وتحقيق المناط، ومن أهم الفتاوى المواكبة للنوازل والمستجدات في مختلف المجالات ما يلي:

نقل أعضاء الميت إلى الحي وزرعها في الإنسان، وزراعة الأعضاء بعد قطعها في حد أو قصاص، حكم جراحة التجميل، وحكم تلقيح الرحم، وحكم نقل الأجهزة  ورفعها عن الميت دماغيا، وحكم اثبات الهلال بالحساب الفلكي، وحكم بيع الأعضاء، وحكم الانضمام للجيوش التي تحارب المسلمين والعمل معها، وحكم أخذ الجنسية من الدول الكافرة، وحكم أخذ قرض ربوي في البلاد التي لا يوجد بها مصارف إسلامية مثل بلاد أوروبا وامريكيا وألمانيا وأستراليا..، وحكم تحكيم القوانين الوضعية ومسألة تكفير من يحكم بالقوانين الوضعية، وحكم الحصول على جنسية من بلد غير إسلامي، حكم فك السحر بالسحر، نوازل الزلازل والفيضانات، حكم الأسهم والسندات وزكاتها، حكم استعمال مياه الصرف الصحي بعد تكريرها، حكم التأمين على الحوادث والسيارات، حكم التأمين على الحياة، حكم التداوي بالحرام، وحكم تحديد جنس الجنين، حكم بيع الرواتب التقاعدية، ومياه الصرف الصحي بعد أن يتم تنقيتها وإزالة ما علق بها من أوساخ هل تصبح طاهرة باعتبار ما آلت إليه أم أنها تبقى نجسة باعتبار حالها الأول[41].

الخلاصة في هذا المطلب أن الحوادث والمستجدات والمسائل والوقائع تحتاج إلى بيان حكم شرعي، وهي كثيرة جداً، منها على سبيل المثال زراعة الأنابيب من أجل الحمل، ومنها نقل أعضاء الميت إلى الحي وزرعها في الإنسان، وزراعة الأعضاء بعد قطعها في حد أو قصاص، وحكم جراحة التجميل، وحكم تلقيح الرحم، وحكم نقل الأجهزة  ورفعها عن الميت دماغيا وغيرها من المسائل المستجدة التي تحتاج إلى أهل العلم لبيان الحكم الشرعي في هذه الوقائع والمستجدات لمواكبة التطور العلمي الحديث في كافة المستجدات والوقائع التي لا تنتهي على مدار حياة الإنسان كونها مصالح مستجدا واحداث بحاجة لبيان الحكم الشرعي من العلماء الثقات.

 المطلب الرابع: نماذج من الفتاوى والمستجدات والنوازل في فتاوى دائرة الإفتاء العام الأردنية نموذجاً[42]

المطالع لدائرة الإفتاء الأردنية من خلال موقع الدائرة على الشبكة العنكبوتية، وتصفح موقع الدائرة يرى أن هناك العديد من الفتاوى المنشورة على موقع الدائرة والتي تتعلق بالمستجدات والنوازل في مختلف المجالات، ومنها على سبيل المثال ما يأتي:

السؤال: ما حكم بيع الرواتب التقاعدية؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

الأصل أنّ الراتب التقاعدي هو نوع من المساعدة تقدمها الدّولة للموظف أو المنتفعين منه فقط بعد نهاية خدمته، وقد يكون الراتب من باب التكافل بين المشتركين كما في الضمان الاجتماعي، ولذا لا يملك المتقاعد هذا الراتب إلا بعد صرفه له، ولذا لا يجوز بيعه سواء بمبلغ معين أو بسلعة معينة، كسيارة ونحوه؛ وذلك لحصول الربا في حال بيعه بمبلغ معين؛ لأنه بيع مال آجل وهو (الراتب التقاعدي) بمال عاجل وهو (المبلغ المدفوع مسبقاً)، وشرط مبادلة المال بالمال التقابض، والتساوي بين البدلين في حال المماثلة بالجنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ) رواه مسلم، وقال الإمام النووي رحمه الله: "أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلاً، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا" [شرح النووي على مسلم 11/ 10]، وأما المنع في حال مبادلة الراتب التقاعدي بسلعة معينة فذلك للجهالة المفضية إلى النزاع، فقد لا يستوفي المشتري من الرواتب التقاعدية ما يعادل قيمة ما باع، فهذه الرواتب عرضة للإيقاف في بعض الحالات، كوفاة المتقاعد، وقد ينقص مقدار الراتب كذلك، فالمبيع هنا -الراتب- مجهول جهالة فاحشة، لا يعرف مقداره وقيمته الكاملة على مدى السنوات المقبلة، وشرط المبيع في الشريعة الإسلامية أن يكون معلوماً علماً تاماً تنتفي به الجهالة، وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، كما أن في هذه المعاملة مقامرة؛ لأن المشتري قد يحصل على مقدار ما دفعه أو أقل أو أكثر، والقمار منهي عنه بنصّ القرآن الكريم، جاء في كتاب [عمدة السالك وعدة الناسك/ ص151] من كتب الشافعية: "للمبيع شروط خمسة: "أن يكون طاهراً، منتفعاً به، مقدوراً على تسليمه، مملوكاً للعاقد، أو لمن ناب العاقد عنه، معلوماً".

ولذا لا يصحّ شرعاً بيع الراتب التقاعدي، لمخالفته لشروط البيع المعتبرة شرعاً، كما أن فيه مخالفة للأنظمة والتعليمات التي تمنع هذه المعاملة، فالغاية من صرف الراتب التقاعدي رعاية حقوق المتقاعد وأسرته. والله تعالى أعلم.

 

السؤال: حول قانون التقنيات الطبية المساعدة على الإنجاب؟

الجواب:

الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

لقد درس مجلس الإفتاء مشروع قانون التقنيات الطبية المساعدة على الإنجاب من خلال عملية أطفال الأنابيب، وتداول أعضاء المجلس الكريم هذا الموضوع من كل جوانبه، واستذكروا ما قاله الفقهاء عندما تناقشوا في مسألة أطفال الأنابيب من خلال مؤتمرات مجمع الفقه الإسلامي الذي عقد في عمان بتاريخ: 8-13/صفر/1407هـ، الموافق: 11-16/10/1986م، وكانوا بين معارض ومؤيد: ومما قاله المعارضون: إن عملية أطفال الأنابيب يترتب عليها المحاذير الشرعية التالية:
1. كشف العورة المغلظة للمرأة، وفي أكثر الأعضاء حرجًا، ولأمر لا تتوقف عليه حياة المرأة.
2.  الخشية من اختلاط الأنساب خلال عملية تحضير ماء الرجل وبويضة المرأة بالتلقيح، ووقوع هذا بسبب الخطأ وارد، واحتماله عمدًا بسبب فساد الذمم وارد أيضا، فقد فسدت الذمم لدرجة أن كل الدول تشكوا من الفساد، وتشكل هيئات لمحاربته، فيخشى من استبدال ماء الزوج أو بويضة المرأة بناءً على طلب أحد الزوجين، أو رغبة من الطبيب في إظهار مقدرته على علاج العقم مما يجلب له الشهرة والثروة.

ومع ذلك أقرت الأكثرية عملية أطفال الأنابيب، مراعاة لحرص الإنسان على الإنجاب، والتي تعد قريبة من حرصه على الحياة، وحفظ الحياة أحد الضرورات الخمس التي راعاها التشريع الإسلامي، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى خوفاً من إجراء هذه العمليات خارج البلدان الإسلامية حيث لا تراعى الاعتبارات الشرعية، لكن شرط المجيزون لهذه العملية اتخاذ الاحتياطات الصارمة لمنع اختلاط الأنساب، وأن يكون تجنب المحاذير الأخرى حسب الإمكان؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها، وفي موضوع اختيار جنس الجنين من خلال عملية أطفال الأنابيب لا توجد هذه الضرورة التي تباح من أجله هذه المحاذير، فالذكر والأنثى كلاهما ولد، تبقى من خلالهما الذرية، وحسبنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ذريته من خلال ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وكراهية البنات من أخلاق الجاهلية التي ندد الله بها في قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ . يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل/58-59]، وكان هذا التكريم للمرأة من مفاخر الشريعة الإسلامية التي لم يدركها غير المسلمين إلا في قرون متـأخرة، وما عملوا بها على وجهها، والادعاء بأن الرغبة في الأنثى إلى جانب الأبناء الذكور كالرغبة في وجود الابن إلى جانب البنات دعوى غير صحيحة، فلا نلاحظ مشكلة عند من كان نصيبه في الإنجاب الذكور فقط، ولكن نرى الرغبة الشديدة في وجود الابن الذكر لدى من رزق البنات فقط، وهذه الرغبة لا تبرر أن نستبيح المحظورات التي تترتب على عملية أطفال الأنابيب؛ لأن الرغبة في الابن الذكر لا تسمو إلى درجة الرغبة في الإنجاب، ولذا يرى مجلس الإفتاء ما يلي:

1. أن عملية اختيار جنس الجنين بواسطة أطفال الأنابيب للقادر على الإنجاب من غير هذه الوسيلة لا تجوز، وفي البنات ما يغني عن البنين.

2. غير القادر على الإنجاب إلا من خلال عملية أطفال الأنابيب لا بأس في حقه من عملية اختيار جنس الجنين؛ لأن المحاذير واقعة لا محالة.

3. وهناك أساليب أخرى لاختيار جنس الجنين تتحدث عنها الأوساط الطبية، ولا تترتب عليها محاذير شرعية، فلا بأس بها، كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع، وتناول بعض الأطعمة.

4. اختيار جنس الجنين تفاديًا لأمراض وراثية تصيب الذكور دون الإناث أو العكس، فيجوز عندئذٍ التدخل من أجل الضرورة العلاجية، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة، وعلى أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريرًا طبيًّا بالإجماع، يؤكد أن حالة المريضة تستدعي هذا التدخل الطبي خوفاً على صحة الجنين من المرض الوراثي.

5. ويوصي المجلس بضرورة إيجاد رقابة مباشرة ودقيقة على المستشفيات والمراكز الطبية التي تقوم بهذه العمليات، كيلا يحصل بعض المحاذير. والله أعلم.

 

السؤال: قرار تأكيد قرار سابق في الوفاة الدماغية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

فإن مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية في جلسته الخامسة المنعقدة يوم الأربعاء (27/شعبان/1438هـ)، الموافق (24/ 5/ 2017م) قد اطلع على السؤال الوارد من عطوفة اللواء الطبيب المساعد لشؤون مدينة الحسين الطبية، حيث جاء فيه:

بمناسبة انتهاء أعمال المؤتمر الفقهي الطبي الدولي الثالث، والذي عقد في رحاب جامعة العلوم الإسلامية تحت رعاية سماحتكم، وبناء على توصيات المؤتمر، نرجو من سماحتكم توضيح الموقف النهائي المتعلق بفتوى 2011 ذات العلاقة بالتبرع بالأعضاء، وكذلك توضيح موقف سماحتكم باعتبار الموت الدماغي كمعيار للتبرع بالأعضاء، وبعد الدراسة ومداولة الرأي قرر المجلس ما يأتي:

سبق لمجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية إصدار قرار باعتبار الوفاة الدماغية موتا حقيقيا تترتب عليه جميع الأحكام الشرعية المتعلقة بالوفاة، وذلك في القرار رقم (11)، في العام (1988م)، وقد أخذ القرار حينها بمضمون قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي (5/ 3) لسنة (1986م)، والذي كان قد عقد في العاصمة عمّان.

ونحن هنا نؤكد على ما ورد في قرار مجلس الإفتاء نفسه رقم (11)، ونوصي بالتزامه والعمل بمضمونه، واعتبار كل ما صدر على خلافه حالة فردية وحادثة عين لا عموم لها. ونسوق نص القرار المعتمد كما صدر حينها على الوجه الآتي:

"يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين الآتيتين:

1. إذا توقف قلبُه وتنفسُه توقفاً تاماً، وحَكَم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.

2. إذا تعطَّلت جميعُ وظائف دماغه [جذع الدماغ] تعطلاً نهائياً، وأخذ دماغه في التحلل، وحَكَم الأطباء المختصون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، ولا عبرة حينئذ بكون أعضاء الميت كالقلب لا يزال يعمل عملا آلياً بفعل أجهزة الإنعاش المركبة.

وفي هذه الحالة (الثانية) يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، ولا يحكم الأطباء بالموت في هذه الحالة إلا بعد الاستيثاق والتأكد من الأمور التالية:

1. توافر جميع شروط تشخيص موت الدماغ.

2. استبعاد الأسباب الأخرى للغيبوبة.

3. غياب جميع منعكسات جذع الدماغ.

4. القيام بجميع الفحوصات اللاّزمة طبياً لإثبات وقف التنفس.

5. السكون الكهربائي في تخطيط الدماغ.

6. إجراء أي فحوص طبية لازمة للتأكد من موت الدماغ.

7. أن تتم هذه الفحوص في مستشفى مؤهل، تتوافر فيه الإمكانات اللاّزمة لهذه الفحوص، ونظرًا لما لهذا الموضوع من أهميةٍ شرعيةٍ، وقانونيةٍ، وطبيةٍ، وأخلاقيةٍ، واجتماعيةٍ، فإن الحكم بموت الدماغ يجب أن يتم من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة، وألا يكون لأحد منهم أي علاقة بالموضوع تُورث شبهةً، وأن تقوم اللجنة بإعادة الفحوصات السابقة بعد فترة كافية من الفحوص الأولى، يقررها الأطباء المختصون للتأكد من إثبات اكتمال جميع الشروط المذكورة آنفاً.

وتعتبر ساعة توقيع اللجنة الطبية المختصة المذكورة هي ساعة وفاة الشخص في حق الأمور التي ترتبط بتاريخ الوفاة. ويؤكد المجلس ضرورة إصدار قانون لمعالجة هذا الأمر، لضمان تنفيذ الشروط الواردة في هذه الفتوى، واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين لها". انتهى نص القرار. والله تعالى أعلم

 

السؤال: ما حكم تبرع المواطنين بقرنيات عيونهم بعد الوفاة، لزرعها عند بعض المواطنين الكفيفي البصر؟

الجواب وبالله التوفيق:

قواعد الشريعة الإسلامية تبيح الاستفادة من قرنيات عيون الموتى لزرعها في عيون كفيفي البصر أو المهددين بالعمى، وذلك ضمن الشروط الآتية:

 التحقق من وفاة المتبرع.

 أن يكون هناك ظنٌّ غالبٌ لدى الأطباء بنجاح عملية الزرع.

 أن يكون الميت قد تبرع قبل موته بقرنيته، أو رضي الورثة بذلك.

ومن الأدلة الشرعية المؤيدة لجواز هذا الأمر:

أولاً: إن نقل الأعضاء من الأموات إلى الأحياء فيه حفظ للنفوس التي جاءت الشريعة الإسلامية بوجوب المحافظة عليها.

ثانياً: لا شك أنَّ العمى أو فقد البصر ضرر يلحق بالإنسان، ودفع هذا الضرر ضرورة شرعية تبيح نقل قرنيات عيون الأموات إلى عيون الأحياء، وهذا يندرج تحت القواعد المتفق عليها، مثل: "الضرورات تبيح المحظورات"، "والضرورة تقدر بقدرها"، "لا ينكر ارتكاب أخف الضررين".

ثالثاً: إن أخذ قرنية الميت لزرعها في عين إنسان حي لاستعادة بصره لا يُعدُّ مِن قبيل المُثلة؛ لأن المثلة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي يُقصد بها إهانة الميت، والاستخفاف بشأنه، وانتهاك موته.

أما في هذه الحالة فهي تكريم للإنسان المتبرع، حيث يفتح له باب الأجر والثواب، وتكريم للإنسان الحي الذي استعاد بصره، وإعانة على التمتع بنعمة الله عليه بالبصر وشكرها، ولهذا ذهب الفقهاء إلى جواز شق بطن الأنثى الحامل التي ماتت، وذلك لإخراج الجنين الذي تُرجى حياتُه، وكذلك جواز شق جوف الميت الذي ابتلع مالاً لغيره، وقد علل الفقهاء ذلك بقولهم: "إن حرمةَ الحي وحفظَ نفسه أَوْلى من حفظ الميت عن المُثلة"، قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) فاطر/22.

رابعاً: دعت الشريعة الإسلامية إلى التداوي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ)[43]، ونقل قرنيات العيون من الأموات إلى الأحياء هو مِن قَبيل التداوي والمعالجة.

خامساً: يدخل التبرع بقرنيات العيون إلى الآخرين المصابين بفقد البصر في مفهوم الصدقة التي حثت الشريعة الإسلامية على بذلها للآخرين من ذوي الحاجات، وحاجة الأعمى إلى البصر أشد من حاجة الفقير إلى المال، وأشد من حاجته إلى الطعام والشراب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)[44]. والله تعالى أعلم.

 

السؤال: شروط التبرع بالأعضاء البشرية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

فإن مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية في جلسته الخامسة يوم الخميس (3/ شعبان/1439هـ)، الموافق (19/ 4/2018م) قد نظر في الكتاب الوارد من معالي وزير الصحة، حيث جاء فيه:

أرجو سماحتكم العلم أنه ورد في القرار رقم (215) (5/2015) تاريخ (21/رمضان/1436هـ) الموافق (8/ 7/2015) الصادر عن مجلس الإفتاء الأردني شروط التبرع بالكلى، ومنها: "ثالثا: أن يتم الأمر على سبيل التبرع من الأحياء، وبدون مقابل مادي، وللتحقق من هذا الأمر لا بد من بذل أسباب التحري الكافية من قبل الجهات الطبية والقانونية والرقابية، ولهذه الجهات تقييد التبرع بالقرابة ودرجتها التي تراها مناسبة بحسب الحقائق التي تستبين لها، وبما تراه مناسبا لتحقيق المصلحة ودرء المفسدة". وهذا الشرط لم يرد في القرار رقم (166) (7/2011) تاريخ (26/8/ 1432هـ) الموافق (28/7/2011م) المتعلقة بحكم التبرع بجزء من الكبد.

فهل تنطبق هذه الشروط على التبرع بجزء من الكبد وغيره من الأعضاء البشرية.

وبناء على ما ورد أعلاه، أرجو التكرم من سماحتكم بعرض الموضوع على مجلس الإفتاء لإصدار الفتوى الشرعية المناسبة، متضمنة أي شروط يستلزم أن تتضمنها الفتوى ليتم الاعتماد عليها، استنادا لأحكام المادة (3/ أ/1) من قانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان وتعديلاته رقم (23) لسنة 1977م، والمرفق صورة عنه.

وبعد الدراسة ومداولة الرأي قرر المجلس ما يأتي:

التبرع بالأعضاء البشرية واحد من أعمال الخير المستحبة إذا تحققت الشروط الشرعية الواجبة، لما في هذا العمل من إنقاذ أرواح الناس وتخفيف آلامهم، وقد قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة/32.

وأما الشروط الشرعية الواجب توافرها فهي:

أولاً: أن يكون المتبرع كامل الأهلية، مع التحقق من رضاه وعدم تعرضه للاستغلال، وخاصة النساء.

ثانياً: أن يتم التحقق الطبي من نجاح عملية نقل الأعضاء، وسلامة المتبرِّع أيضا؛ لأن القاعدة الشرعية تقرر أن "الضرر لا يزال بضرر مثله"، وهذا يقتضي أن يغلب على ظن الأطباء نجاح كل من عمليتي النزع والزرع، وسلامة المتلقي والمتبرع.

ثالثاً: أن يتم الأمر على سبيل التبرع، وبدون مقابل مادي، وللتحقق من هذا الأمر لا بد من بذل أسباب التحري الكافية من قبل الجهات الطبية والقانونية والرقابية، ومن ذلك التحقق من أمارات شبهة المعاوضة المالية، كدرجة القرابة، والعوز المالي، وفارق العمر، وتفاوت الجنس، ونحوها من التعليمات، وبما تراه مناسبا لتحقيق المصلحة ودرء المفسدة.

رابعاً: أن تستنفد وسائل العلاج الأخرى.

الخلاصة في هذا المطلب أن هذه هي بعض النماذج من الفتاوى والتي تتعلق بالوقائع والمستجدات والنوازل التي قامت دائرة الإفتاء الأردنية بإصدار فتاوى خاصة بها من المسائل والمستجدة والوقائع المستحدثة.

الخاتمة

وفيها أهم النتائج والتوصيات

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.

فبعد التطواف في رحاب الاجتهاد الفقهي المعاصر بين فقه النص وفقه الواقع في إطار الاجتهاد والفتاوى المواكبة للنوازل والمستجدات المعاصرة، فقد توصلت إلى أهم النتائج والتوصيات، وهي على النحو الآتي:

أولاً: النتائج، ومن أهم النتائج ما يلي:

1. إن الإمام يرفع الخلاف الوارد في موضوع الاجتهاد الفقهي في المسائل الفقهية، وأن دور الإمام في رفع الخلاف؛ لهو مؤشر قوي على أهمية متابعة الإمام الفقيه، وأن الخروج على الإمام الفقيه؛ يؤدي إلى بزوغ النزاع في المسائل المختلف فيها، ودور الإمام هو رفع الخلاف وضبط دقائق الأمور.

2. إن الحاجة اليوم إلى الاجتهاد بين فقه النص وفقه الواقع والفتاوى والنوازل والمستجدات، حاجة ماسة، في ظل المستجدات والنوازل، مع الحاجة اليوم إلى الفقه الواقعي الذي يتناسب مع هذه المستجدات، فهي بحاجة إلى حلول فقهية عاجلة، وإلى اجتماع الفقهاء لبيان القضايا المستجدة والنوازل التي لم يكن بها حكم سابق.

3. اشترط العلماء لصحة التلفيق شروطاً منها، أن لا يخالف إجماعاً أو نصاً من كتاب أو سنة، ومنها أن لا يكون بقصد التحلل من عهدة التكليف؛ لأن من معاني التلفيق هُوَ تتبع الرُّخص عَن هوى، ويُطلقُ التلفيقُ في الفقه وأصوله ويُرادُ به في الغالب، الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا تُوافقُ قولَ أحدٍ من المجتهدين السابقين، فالخلاصة أن التلفيق لا منفعة فيه.

4. هناك نماذج من الفتاوى والمستجدات والنوازل في فتاوى دائرة الإفتاء العام الأردنية، تعاملت معها دائرة الإفتاء العام ضمن منهج علمي دقيق متكامل، ويمكن الرجوع إليها من خلال موقع دائرة الإفتاء العام الأردنية.

ثانيا: التوصيات ومن أهم التوصيات ما يلي:

1. على طلبة العلم الشرعي متابعة الحوادث والمستجدات والمسائل والوقائع التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي.

2. عقد دورات متخصصة لطلبة العلم الشرعي، لدراسة الفتاوى والمستجدات والنوازل الصادرة عن دائرة الإفتاء العام الأردنية.

3. تزويد كليات الشريعة في جامعات العالم العربي والإسلامي بجميع الفتاوى الصادرة في الوقائع والمستجدات والنوازل من مختلف بلاد العالم العربي والإسلامي، من خلال طباعتها في كتاب مستقل، واعتماد هذا الكتاب وتدريسه في كليات الشريعة.

 

(*) بحث مقدم إلى الرابطة العالمية للفقهاء ­ ورابطة علماء إرتريا، المؤتمر الفقهي الدولي الثالث بعنوان (الاجتهاد الفقهي المعاصر الضوابط، والمنهجية، والآثار)، اسطنبول- تركيا، 28­29 /06 /2025م.   

 


[1] الجامع الكبير (سنن الترمذي)، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)، ج3، ص9.

[2] إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، (المتوفى: 1182هـ)، ص: 11.

[3]  شرح سنن أبي داود للعباد، عبد المحسن بن حمد، ج 2، ص407.

[4] إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني الكحلاني، (المتوفى: 1182هـ)، ص: 8.

[5] آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد، عويد بن عيَّاد بن عايد المطرَفي، ص: 80.

[6] فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين، زين الدين أحمد بن عبد العزيز بن زين الدين بن علي بن أحمد المعبري، (المتوفى: 987هـ)، ص: 34.

[7] إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، أبو بكر (المشهور بالبكري) بن محمد شطا الدمياطي، (المتوفى: 1302هـ)، ج4، ص249.

[8] فقه النوازل في العبادات، المشيقح، خالد بن علي بن محمد بن حمود بن علي، ص: 20.

[9] موقع دائرة الإفتاء العام الأردنية، الشبكة العنكبوتية. https://www.aliftaa.jo/Default

[10] الفروق للقرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي القرافي، (المتوفى: 684هـ)، ج2، ص104.

[11] الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، (المتوفى: 790هـ)، ج5، ص71.

[12] شرح زاد المستقنع، حمد بن عبد الله بن عبد العزيز الحمد، ج12، ص23.

[13] الفروق للقرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي، (المتوفى: 684هـ) ج2، ص104.

[14] القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، محمد مصطفى الزحيلي، عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، ج2، ص251.

[15] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، (المتوفى: 660هـ/1261م)، ج2، ص89.

[16] المستصفى، الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (المتوفى: 505هـ/1111م)، ص: 346.

[17] شرح مختصر خليل، محمد بن عبد الله الخرشي المالكي الخرشي (المتوفى: 1101هـ/1689م)، ج7، ص166.

[18] ) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، (المتوفى: 1250هـ)، ص: 87.

[19] تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، (المتوفى: 911هـ)، ص: 38.

[20] إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني الكحلاني، (المتوفى: 1182هـ)، ص: 8.

[21] البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، (المتوفى: 794هـ)، ج8، ص316.

[22] الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى، محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن رشد، (المتوفى: 595هـ)، ص: 143.

[23] الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى، محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن رشد، (المتوفى: 595هـ)، ص:144.

[24] الاجتهاد (من كتاب التلخيص لإمام الحرمين)، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، (المتوفى: 478هـ)، ص95.

[25] المسودة في أصول الفقه، مجد الدين عبد السلام بن تيمية (ت: 652هـ)، وأضاف إليها الأب، عبد الحليم بن تيمية (ت: 682هـ)، ثم أكملها الابن الحفيد: أحمد بن تيمية (728هـ)، ص: 461.

[26] المهذب في علم أصول الفقه المقارن، عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، ج5، ص2388.

[27] المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب، بكر بن عبد الله بن محمد، (المتوفى: 1429هـ)، ج1، ص95.

[28] شرح زاد المستقنع، محمد بن محمد المختار الشنقيطي، ج4، ص394.

[29] نظرية الخلافة، السلفية، الثورة، الفرق الإسلامية، محمد عمارة مصطفى عمارة، ص: 116.

[30] أصول الفقه، علي بن عمر بادحدح، ج5، ص8.

[31] قواعد الفقه، محمد عميم الإحسان البركتي، ص: 236.

[32] أصُولُ الِفقهِ الذي لا يَسَعُ الفَقِيهِ جَهلَهُ، عياض بن نامي بن عوض السلمي، ص: 489.

[33] القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد، محمد بن عبد العظيم ابن مُلّا فَرُّوخ، (المتوفى: 1061هـ)، ص: 94.

[34] أصُولُ الِفقهِ الذي لا يَسَعُ الفَقِيهِ جَهلَهُ، عياض بن نامي بن عوض السلمي، ص: 489.

[35] عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، أحمد بن عبد الرحيم بن الشهيد ولي الله الدهلوي (المتوفى: 1176هـ)، ص: 18.

[36] القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، (المتوفى: 1250هـ)، ص: 18.

[37] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا ابن فارس، (المتوفى: 395هـ)، ص:1023.

[38] المدخل إلى فقه النوازل من كتاب دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة، عبدالناصر أبو البصل، ص:206.

[39] الفقه العقدي للنوازل، عبد الرحيم بن صمايل العلياني السلمى، ص:221

[40] فقه النوازل في العبادات، خالد بن علي بن محمد بن حمود بن علي المشيقح، ص: 20.

[41] مجموعة من طلبة العلم، بحوث لبعض النوازل الفقهية المعاصرة، ج4 / ص1.

[42] جميع النماذج من الفتاوى والمستجدات والنوازل تم أخذها من موقع دائرة الإفتاء العام الأردنية الإلكتروني.

[43] رواه أبو داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، حديث رقم: (3874) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. واختلف العلماء في حكمه، فقال ابن الملقن: إسناده صحيح. "تحفة المحتاج" (2/ 9). وقال النووي رحمه الله: إسناده فيه ضعف. "المجموع" (5/ 106) وله شواهد مرفوعة وموقوفة انظرها في "التلخيص الحبير".

[44] رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، حديث رقم: (2699).