ترجيحات أبي حيان الأندلسي في أحكام الأسرة من خلال تفسيره "البحر المحيط" (*)
الدكتور محمد عبد الرحمن بني عامر، مفتي محافظة الزرقاء، دكتوراه في التفسير وعلومه
ملخص
تناول هذا البحث ترجيحات أبي حيان الأندلسي في أحكام الأسرة، وقد هدف إلى التعرف على الصيغ التي كان أبو حيان يستخدمها في التعبير عن ترجيحاته، كما هدف البحث أيضا إلى استخراج الوجوه التي بنى عليها أبو حيان ترجيحاته في هذا الجانب، ومن خلال تناول البحث لهذا الموضوع، أمكن استخراج مجموعة من الصيغ التي استخدمها أبو حيان في ترجيحاته، كما أمكن التعرف على عدد من الوجوه التي رجح بناءً عليها، كالترجيح بالنظير القرآني وبالسياق وبالسنة وباللغة وغير ذلك من الوجوه، وقد كان من نتائج هذا البحث إظهار جزءٍ من جهود أبي حيان الفقهية، وكانت التوصية في هذا البحث بضرورة الاهتمام بالجانب الفقهي في تفسير أبي حيان الأندلسي، إذ إنّ هذا الجانب لم يُعط الاهتمام الكافي حتى الآن.
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، فأنار به الطريق، وأوضح به السبيل، كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والصلاة والسلام على رسول الهدى والرحمة، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فلقد ظلّ القرآن الكريم على مرّ العصور، موضع اهتمام المسلمين، فعُنُوا به عناية عظيمة؛ تفهماً لمعانيه، واستنباطاً لأحكامه، واستخراجاً لعظاته وعبره.
ومن هؤلاء الذين خدموا كتاب الله تعالى الإمام أبو حيان الأندلسي، من خلال تفسيره "البحر المحيط"، هذا التفسير الذي اشتهر في الآفاق على أنه أساس في التفسير اللغوي، مع أنه ضم بحوثاً عديدة وتحقيقات سديدة في شتى العلوم؛ حيث تطرق مؤلفه إلى العقيدة وأسسها، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، واللغة وفنونها، وقد جاء هذا البحث بعنوان "ترجيحات أبي حيان الأندلسي في أحكام الأسرة من خلال تفسيره البحر المحيط".
مشكلة الدراسة:
رغم ما حظي به تفسير "البحر المحيط" من عناية واهتمام من قبل العلماء والباحثين، إلا أن أحداً منهم لم يفرد الجانب الفقهي بالدراسة والبحث، لذا فإن البحث جاءَ للإجابة عن الأسئلة الآتية: هل كان الجانب الفقهي المتعلق بأحكام الأسرة بارزاً في هذا التفسير؟ وهل كان أبو حيان صاحب رأي فقهي مستقل أم كان مقلداً؟ هذا ما يحاول هذا البحث الإجابة عنه.
أهداف الدراسة:
يهدف هذا البحث إلى التعرف على ترجيحات أبي حيان في المسائل المتعلقة بأحكام الأسرة، والصيغ التي استخدمها، والأوجه التي رجح بناءً عليها.
الدراسات السابقة:
لا أعلم أحداً كتب عن الجانب الفقهي في تفسير البحر المحيط حتى الآن، أمّا ما كتب عنه في غير المجال الفقهي فكثير، تفاوتت ما بين النحو والصرف واللغة والقراءات، وهناك مشروع علمي في جامعة أم القرى حول ترجيحات أبي حيان في تفسيره.
منهجية الدراسة:
استخدمت في هذه الدراسة المنهج الاستقرائي، فقد قمت باستقراء الأقوال التي أوردها أبو حيان في أحكام الأسرة، وترجيحاته بين هذه الأقوال، ثم قمت بتلخيص هذه الأقوال، مبيناً الوجه الذي رجحه أبو حيان بناءً عليه، مكتفياً بإيراد مثالٍ واحد لكل وجه من وجوه الترجيح، متجنباً الاستطراد.
حدود الدراسة:
حدود هذه الدراسة هي آيات أحكام الأسرة في تفسير أبي حيان الأندلسي، وتشمل آيات الزواج والطلاق والوصايا والمواريث وما يتعلق بها، وقد جاء هذا البحث في مقدمة ومبحثين وخاتمة:
المقدمة: وتشمل أدبيات الدراسة؛ مشكلة الدراسة وأهدافها وحدودها، ومنهجيتها، والدراسات السابقة.
المبحث الأول: توطئة بين يدي البحث، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بأبي حيان الأندلسي
المطلب الثاني: التعريف بتفسير البحر المحيط
المطلب الثالث: معاني مصطلحات العنوان
المبحث الثاني: ترجيحات أبي حيان الأندلسي، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: صيغ الترجيح
المطلب الثاني: وجوه الترجيح
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج والتوصيات
المبحث الأول
توطئة بين يدي البحث
المطلب الأول: التعريف بأبي حيان الأندلسي
هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان، أثير الدين، أبو حيان، وعرف بالأندلسي نسبة إلى موطنه الكبير الأندلس(1).
ولد أبو حيان قرب غرناطة في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة للهجرة(2)، وقد طالت الحياة بأبي حيان حتى جاوز التسعين من العمر، قضاها متنقلاً من أرض إلى أرض، ومن فنّ إلى فنّ، وقد بارك الله في عمره، فترك وراءه عشرات المصنفات، حتى قال عنه الصفدي: "ملأ الزمان تصانيف، وأمال عنق الأيام بالتواليف"(2)، وظل منكباً على الدرس والتحصيل، حتى لقي ربه في الثامن والعشرين من صفر عام خمسة وأربعين وسبعمائة للهجرة ودفن بالقاهرة(4).
وقد ذكر المؤرخون أن أبا حيان تنقل بين عدة مذاهب فقهية، وهي المذهب المالكي والظاهري اللذين تمذهب بهما وهو بالأندلس، حيث قرأ الموطأ للإمام مالك (ت179هـ)، كما قرأ المحلى لابن حزم الظاهري (ت456هـ)، واختصره في كتاب سماه "الأنور الأجلى في اختصار المُحلى"، وكذا المذهب الشافعي الذي تمذهب به عندما دخل مصر، ووجد مذهب أهل الظاهر مهجوراً، وقد قرأ المحرر للرافعي (ت623هـ)، والمنهاج للنووي (ت676هـ)، واختصره في كتاب سماه "الوهاج في اختصار المنهاج"، وقد عقد له تاج الدين السبكي (ت771هـ) ترجمة مطولة في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى"(5).
المطلب الثاني: التعريف بتفسير "البحر المحيط"
"البحر المحيط" كتاب مطوَّل في تفسير كتاب الله تعالى، أعدّ له مؤلفه عدته، فلم يشرع فيه إلا عند دنوّه من الستين، وقد سمّى أبو حيان تفسيره "البحر المحيط"، وهو كما سمّاه مؤلفه، بحر زاخر باللآلئ والدرر، وفوائده واضحة غرر، ولم يكتف بتسميته بالبحر، وإنما وصفه بالمحيط، فكان محيطاً لكل أبعاد التفسير، جامعا لأوابده، متتبعا لنادِّه وشارده، وحين تطالع البحر المحيط، تعلم أن أبا حيان قد أعطى الكلام معناه، وطابق بين الاسم ومسماه.
وقد تنوعت المصادر التي استقى منها أبو حيان تفسيره، فقد رجع إلى كثير من كتب القراءات والتفسير والحديث والنحو والتصريف واللغة والفقه وأصوله وغيرها، إضافة لما كان للمصنف من علم غزير واطلاع واسع، وموضوع "البحر المحيط"، ليس مقصوراً على التفسير فحسب، بل هو موضوع عام، يقوم على جملة العلوم التي حذق فيها أبو حيان وأمضى شبابه في تحصيلها، ويعدّ هذا التفسير من التفاسير المدرجة ضمن التفاسير بالرأي مع عدم إغفال التفسير بالمأثور.
أما فيما يتعلق بالجانب الفقهي، فإن أبا حيان لم يهمل هذا الجانب في تفسيره، فقد أشار في مقدمة البحر إلى منهجه في التعامل مع هذا الجانب، فبين أنه يتلخص في نقل أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم في الأحكام الشرعية مما له تعلق باللفظ القرآني، والإحالة على الدلائل التي في كتب الفقه، وذكر الدليل إذا كان الحكم غريباً أو خلاف مشهور ما قاله معظم الناس، بادئاً بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ، مرجحاً له لذلك، ما لم يصدّ عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه"(6)، ويبدو تأثر أبي حيان بمذهب أهل الظاهر ظاهراً، إذ كثيراً ما كان يرجح الأحكام الفقهية بناءً على ظاهر النصّ، حتى لو خالف ما عليه الجمهور أحياناً.
ولم يقتصر جهد أبي حيان في تفسير آيات الأحكام على نقل آراء المفسرين والفقهاء والمجتهدين الواردة في بيان الأحكام المستنبطة من النص القرآني، بل كان يقف أمام معظم هذه الأقوال موقف الباحث الناقد، فهو إذ ينقل تلك الأقوال لا يقبل رأياً منها، حتى يعرضه على جملة من الموازين العلمية، فإن سقط أمام تلك الموازين رده، وخرج برأي من عنده يراه أقرب إلى النصّ، وألصق بالسياق الذي ينتظم تلك الآية، وأكثر تعلقاً بسبب نزولها(7).
وقد تكلم أبو حيان في خطبة الكتاب على حدّ أصول الفقه، وأهم ما صنف فيه، والشيوخ الذين بحث معهم في هذا الفنّ، وأشار إلى أن معرفة الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ودلالة الأمر والنهي، وما أشبه هذا، هو من العلوم التي يحتاج إليها المفسّر، ويختصّ أكثر هذا بجزء الأحكام من القرآن، ويؤخذ من أصول الفقه(8)، ويظهر أثر استخدام أبي حيان لأصول الفقه في استنباطه الأحكام من الأدلة الكلية، وفي درء التعارض بين الأدلة الشرعية.
المطلب الثالث: معاني مصطلحات العنوان
الفرع الأول: معنى الترجيح لغة واصطلاحاً: الترجيح في اللغة: مصدر رجَّح يرجِّح ترجيحاً، ومادة الراء والجيم والحاء تدور حول الثقل والميل والرزانة والزيادة، يقال: رجح الشيء وهو راجح، إذا رزن، من الرجحان، ورجح الميزان يرجح –بتثليث الجيم– رجحاناً، أي مال، ونخلٌ مراجيح، أي ثقال الأحمال(9).
أما في الاصطلاح؛ فإن الترجيح "هو تقوية أحد الطريقين على الآخر ليُعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر"(10)، وعليه فإن الترجيح في التفسير هو تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل يدل على قوته أو ضعف ما سواه من الأقوال.
الفرع الثاني: معنى الأحكام لغة واصطلاحاً: الأحكام في اللغة جمع حكم، وأصل مأخذه في العربية من مادة تدور كلها حول المنع، ومنه حكمة اللجام لمنعها الدابة من الانطلاق على خلاف مراد صاحبها، ومنه الحِكمة المضادة للعبث والسفه، وحَكَم الشيء وأحكمه، منعه من الفساد(11).
والحكم في اصطلاح الأصوليين -ويسمى الحكم التكليفي- هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع(12).
والمقصود بالاقتضاء هو الطلب، وقد يكون طلب فعل أو طلب ترك، وكلٌّ منهما قد يكون جازماً أو غير جازم، فطلب الفعل الجازم هو الوجوب، وغير الجازم هو الندب، وطلب الترك الجازم هو الحرمة وغير الجازم هو الكراهة، والمقصود بالتخيير هو الإباحة، أما المقصود بالوضع فهو جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً، والحكم على الفعل بأنه صحيح أو باطل... فكل دليل شرعي تعلق بفعل من أفعال المكلفين، طلباً أو تخييراً أو وضعاً، هو حكم شرعي في اصطلاح الأصوليين(13).
الفرع الثالث: معنى الأسرة لغة واصطلاحاً: الأسرة في اللغة: الدرع الحصينة، وأسرة الإنسان: عشيرته ورهطه الأدنون، سُمُّوا بذلك لأنه يتقوى بهم، والأسرة: عشيرة الرجل وأهل بيته، وقيل: أقارب الرجل من قبل أبيه(14).
أما الأسرة اصطلاحاً؛ فقيل في تعريفها: هي الرابطة الزوجية التي تتكون من زوج وزوجة، وما انبثق منها من ذرية؛ أبناء وبنات، وإخوة وأخوات وأعمام وعمات وعاقلة الفرد، بحيث يقرب المعنى الاصطلاحي من اللغوي(15).
بعد هذا التعريف الموجز لمعاني مصطلحات العنوان؛ نخلص إلى القول: إن المقصود من هذا البحث هو بيان الأقوال التي رجحها أبو حيان في تفسيره للآيات التي تتعلق بأحكام الأسرة؛ من زواج وطلاق ووصايا ومواريث وغيرها.
المبحث الثاني
ترجيحات أبي حيان
لقول جمهور الفقهاء مكانة عند أبي حيان، فهو يميل إليه ويحترمه ويشيد به، ويبدأ أقواله به في أحيان كثيرة، على أن هذا ليس ديدنه دائماً، فقد يخالفه ويرجح غيره إذا انقدح في ذهنه من الأدلة غير ما يراه الجمهور، وقد تميزت بحوثه الفقهية برحابة الصدر، وسعة الأفق، واحترام الآراء، كما أنه لم يتعصّب لمذهبه ضدّ مذهب معين، بل كان منصفاً في معظم أقواله.
المطلب الأول: صيغ الترجيح
تنوعت الصيغ التي بين أبو حيان من خلالها ما يرجحه وما يميل إليه من الأقوال التي يذكرها في تفسيره، وقد جاءت هذه الصيغ صريحة أحياناً وغير صريحة أحيانا أخرى، ومن خلال التتبع والاستقراء يمكن تقسيم هذه الصيغ إلى ما يلي:
أولاً: التصريح بترجيح أحد الأقوال: فقد نصّ أبو حيان في مواضع من تفسيره على ما يرجحه من الأقوال التي يوردها، كقوله: والصحيح، والأصحّ، ويعضده ما صحّ، والأظهر، ورُجِّح هذا القول.
والذي يظهر أن أبا حيان كان يستخدم هذه الصيغ للإشارة إلى أن ما سوى القول الراجح ضعيف أو مردود، لأنه مناقض لأدلة الترجيح، ومثاله ما ذكره أبو حيان في تفسيره لقول الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، فقد نقل أبو حيان ثلاثة أقوال عن ابن عباس في حكم نكاح المتعة، وهي: جوازها مطلقاً، وجوازها عند الضرورة، وتحريمها، وقد رجح أبو حيان القول بالتحريم موافقاً في ذلك سلف الأمة وخلفها، فبعد أن نقل الأقوال الثلاثة المروية عن ابن عباس قال: "والأصحّ عنه الرجوع إلى تحريمها... وقد ثبت تحريمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عليّ وغيره"(16).
وحديث عليّ الذي يشير إليه أبو حيان مرويٌّ في الصحيحين، فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية(17).
ثانياً: التصريح بالرأي الراجح عند غيره، فقد كان أبو حيان ينقل الأقوال الواردة في الحكم الفقهي، ثمّ يصرّح بالقول الراجح عند غيره، دون أن ينصّ صراحة على ترجيحه لهذا القول، كقوله: وهو قول فقهاء الأمصار، وذهب الجمهور، وعلى هذا أكثر أهل العلم، وهو قول الجمهور، وهو قول جُلِّ المفسرين، وهو قول أكثر أهل العلم.
والذي يظهر أنّ أبا حيان كان يستخدم هذه الصيغ للإشارة إلى أنّ ما سوى القول الراجح ضعيف لترجيح الجمهور خلافه، ومثاله ما ذكره أبو حيان في تفسيره قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، قال أبو حيان: "والظاهر جواز طلاق الحائض غير المدخول بها، لأنّ الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهنّ عموماً، سواء كنّ حيضاً أم لا، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك، ولمالك قول يمنع من طلاق الحائض مدخولاً بها أو غير مدخول بها"(18).
فقد أورد أبو حيان في هذا النصّ قولين في حكم طلاق الحائض، لكنه رجّح القول بوقوع طلاق الحائض، لأنه قول أكثر العلماء، ثم أورد القول الثاني، الذي يمنع طلاق الحائض، وهو قولٌ لمالك، ورغم أنّ أبا حيان أشار إلى قولٍ للإمام مالك بأنّ طلاق الحائض غير واقع، إلا أن المعتمد عند المالكية هو وقوع طلاق الحائض(19).
ثالثاً: التصريح بضعف أو ردّ أحد الأقوال؛ فقد كان أبو حيان ينقل الأقوال الواردة في الحكم الفقهيّ، ثم يصرح بضعف أو ردّ أحد الأقوال، دون أن ينصّ صراحة على ترجيحه لغيره، كقوله: وفيه بُعد، ويبعد جداً، وهذا بعيد جداً، وأبعد من قال، وشذَّ من قال، وهو قول شاذّ مهجور، وقد اتفقت الأمة على خلافه، وليس كما قال، وليس بقول، وهذا ينبو عنه لفظ الآية، وهو مخالف للأصول، وقد ضُعِّف هذا القول.
والذي يظهر أنّ أبا حيان كان يستخدم هذه الصيغ للإشارة إلى استبعاد القول الذي يشار إليه بهذه العبارة، وأن القول الراجح غيره، ومثاله ما ذكره أبو حيان في تفسير قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]، قال أبو حيان: "وموت الزوج قبل البناء وقبل الفرض، ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض، فليس لها مهر ولا ميراث، قاله مسروق، وهو مخالف للأصول، وقال عليّ وزيد وابن عباس وابن عمر والزهري والأوزاعي ومالك والشافعي: لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة، وقال عبد الله بن مسعود وجماعة من الصحابة وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق: لها صداق مثل نسائها، وعليها العدة ولها الميراث"(20).
فقد أورد أبو حيان في تفسير الآية ثلاثة أقوال في أحكام المرأة التي يموت زوجها قبل الدخول ولم يسمّ لها مهراً، وقد استبعد أبو حيان رأي مسروق لأنه مخالف للأصول، دون أن يشير إلى الرأي الراجح من الرأيين الآخرين، على أن الرأي الراجح هو ما عليه الجمهور، وهو أن لها مهر المثل وعليها العدة ولها الميراث، لما روي أن ابن مسعود قضى في امرأة لم يفرض لها زوجها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات، فقال: لها صداق مثلها، لا وَكْس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقال مَعْقِل بن سنان: "قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بَرْوع بنت واشق مثل ما قضيت"(21).
المطلب الثاني: وجوه الترجيح
الفرع الأول: الترجيح بالنظير القرآني، وهو الترجيح بدلالة آية أو آيات قرآنية، وهو ما اصطلح على تسميته بتفسير القرآن بالقرآن، ذلك أن ما أُجمل في مكان في القرآن فُسّر في مكان آخر منه، وما اختصره السياق في موضع، بسطه في موضع آخر، وقد اعتبره العلماء من أوجه الترجيح، واستدلوا به عند حدوث الاختلاف والتنازع(22)، وقد اعتمد أبو حيان هذا الوجه من أوجه الترجيح، ومثاله قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، فقد ذكر أبو حيان اختلاف العلماء في قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}؟ على قولين:
القول الأول: هو الزوج، وعفوه أن يعطيها المهر كله، ونقل هذا القول عن عليّ وابن عباس وغيرهم، وهو قول أبي حنيفة وقول عند الشافعي، وهو ما رجّحه أبو حيان، قال: "ولو فرضنا أنّ قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} من المتشابه، لوجب ردّه إلى المحكم، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4] وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء:20]، وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]، فهذه الآيات محكمة تدل على أنّ الولي لا دخل له في شيءٍ من مال الزوجة"(23).
القول الثاني: هو الوليّ، زوجاً كان أو سيداً، ونقل هذا القول عن عدد من الصحابة والتابعين، وهو قول مالك وقول عند الشافعي، وحجتهم أنّ الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح، وأن يجعل تكميله الصداق عفواً.
وما ذهب إليه أبو حيان هو الراجح، لأنّ الزوج إذا طلق زوجته قبل الدخول، فلا تأخذ إلا نصف المهر، وعفوه أن يعطيها المهر كله، لأنّ الآيات الأخرى بينت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، فوليّ الزوجة ليس له أن يعفو؛ لأنّ مهر المرأة من حقها لا من حقه.
الفرع الثاني: الترجيح بتخصيص العام، والعموم في الاصطلاح هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له من غير حصر، والخاصّ هو إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه(24)، وقد يكون العام والخاصّ كلاهما قرآناً، وقد يكون العام قرآناً والخاص سنة، وقد رجح أبو حيان في تفسيره بهذا الوجه من أوجه الترجيح بكلا النوعين، وكما يلي:
أولا: أن يكون العام والخاصّ كلاهما قرآناً، ومثاله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فقد نقل أبو حيان سببين في قصر الحكم على المدخول بهن ذوات الأقراء:
السبب الأول: الحكم عام، لكنه مخصوص بالمدخول بهن ذوات الأقراء.
السبب الثاني: الحكم عام، ثم نسخ الحكم من المطلقات سوى المدخول بها ذات الأقراء.
وقد رجّح أبو حيان القول الأول وضعف الثاني، مستدلاً بالعموم والخصوص، قال: "وإطلاق العامّ ويراد به الخاصّ لا يحتاج إلى دليل لكثرته، ولا أن يجعل سؤالاً وجواباً"(25).
وما ذهب إليه أبو حيان هو الراجح، فرغم ما بين التخصيص والنسخ من التشابه، إلا أن الحمل على التخصيص أولى من الحمل على النسخ، قال القرطبي: "والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهنّ، وخرجت المطلقة قبل البناء بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، وخرجت الحامل بقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، وخرجت الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي قد يئست بقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، وقال قوم: إنّ العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة"(26).
ثانياً: أن يكون العام قرآناً والخاص سنة، ومثاله قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24]، فقد نقل أبو حيان أربعة أقوال في معنى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ}، وهي:
القول الأول: وأُحل لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم، فحلال لكم تزوجهن، وهو قول عطاء والسدي.
القول الثاني: وأُحلّ لكم ما وراء ذلكم من الإماء، وهو قول قتادة.
القول الثالث: وأُحل لكم ما دون الخَمْس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح.
القول الرابع: العموم، إلا ما خصصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وهو ما رجّحه أبو حيان(27)، والسنة المستفيضة التي أشار إليها أبو حيان هي قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها}(28)، وهو ما رجحه أبو حيان اعتماداً على تخصيص الحديث لعام القرآن، وما ذهب إليه أبو حيان هو الحقّ، والأقوال الثلاثة السابقة كلّها متضمنة في القول الرابع.
الفرع الثالث: الترجيح بالسنة: يُقصد بالسُنّة عندَ أهل الحديث: ما نُسبَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أقوالٍ وأفعالٍ وتقارير أو صفات خَلقيّة أو خُلُقيّة"(29)، والترجيح بالسنة من القواعد التي اعتمد عليها العلماء -ومنهم أبو حيان– في ترجيحاتهم، ومثاله قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فقد نقل أبو حيان قولين في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وهما:
القول الأول: عدتها وضع الحمل، لأن الآية عامة في المطلقة وفي المتوفى عنها زوجها، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي هريرة وفقهاء الأمصار.
القول الثاني: عدتها أبعد الأجلين، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر، صبرت إلى آخرها، وهو قول علي وابن عباس.
وقد رجح أبو حيان القول الأول مستدلاً بحديث سبيعة(30)، فقد صحّ أنّ سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل، فوضعت بعد أربعين يوماً من موته، فقضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بانقضاء عدتها(31).
قال القرطبي: "وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن القول بأنّ عدتها أبعد الأجلين"(32).
الفرع الرابع: الترجيح بسبب النزول، ويراد بسبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أيام وقوعه(33)، والترجيح بسبب النزول من أوجه الترجيح المعتمدة عند العلماء، إذ قرروا أنّ القول الذي يؤيده سبب النزول مقدّم على ما ليس كذلك.
وقد اعتمد أبو حيان هذا الوجه، واستدلّ به على ترجيح بعض الأقوال في تفسيره، ومثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106]، فقد نقل أبو حيان قولين في معنى قوله تعالى: {مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، وهي:
القول الأول: {مِّنكُمْ} أي من أقاربكم و{مِنْ غَيْرِكُمْ} من المسلمين الأجانب، وهو قول ابن عباس وعكرمة والزهري، وبه قال الزمخشري، وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية الشافعية والحنابلة، أي إن وقع الموت في السفر، ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، وجعل الأقارب أولى، لأنهم أعلم بأحوال الميت، وهم له أنصح.
القول الثاني: {مِّنكُمْ} أي من المؤمنين و{مِنْ غَيْرِكُمْ} من الكفار، وهو قول الرازي، قالوا: وقد نزلت الآية ولا مؤمن بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار، وهو ما رجّحه أبو حيان مستشهداً بسبب نزول الآية"(34).
أمّا سبب النزول الذي رجّح أبو حيان بناءً عليه؛ فهو أن تميماً الداري وعدياً كانا يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتما ولا اطلعتما، ثم وجد الجام بمكة، قالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهميّ ولشهادتهما أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين، فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية"(35)، وما رجحه أبو حيان هو الأيسر، وهو أن شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية جائزة للضرورة عند عدم وجود مسلم، لأن الضرورات تبيح المحظورات.
الفرع الخامس: الترجيح بالسياق: وهو بيان اللفظ أو الجملة في الآية بما لا يخرجه عن السباق واللحاق إلا بدليل صحيح يجب التسليم له، والسباق هو الكلام الذي يبين معنى ما قبله، واللحاق هو الكلام الذي يبين معنى ما بعده، ويطلق عليهما معاً سياق(36).
والسياق من أعظم الدلائل على مراد المتكلم، ودلالته من الأمور التي يجب مراعاتها في تفسير الآيات، وقد أولى أبو حيان هذا الوجه من أوجه الترجيح عناية كبيرة، حيث استعان به في ترجيح بعض الأقوال، وفي تضعيف بعضها، ومثاله قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء:24]، فقد نقل أبو حيان عدة أقوال في معنى ما تراضيتم به، وهي:
القول الأول: هو المهر، وهذا نصّ على أنّ المهر يسمّى أجراً، وإلى هذا ذهب الحسن وابن زيد.
القول الثاني: هو المتعة، والمعنى فيما تراضيتم به من بعد الفريضة زيادة في الأجل، وزيادة في المهر قبل استبراء الرحم.
القول الثالث: أيّ في ردّ ما أعطيتموهن إليكم، وهو قول ابن عباس.
القول الرابع: فيما تراضيتم به من النقصان في الصداق إذا أعسرتم، وهو قول ابن المعتمر.
القول الخامس: أي إبراء المرأة عن المهر، أو توفيته، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول.
القول السادس: أي فيما تراضيتم به من بعد فرقة، أو إقامة بعد أداء الفريضة.
وقد نقل أبو حيان الأقوال الثلاثة الأخيرة بصيغة التمريض، ورجح القول الأول مستدلاً بالسياق، حيث قال: "فللمرأة أن تردّ المهر على زوجها أو أن تنقص أو تؤخر، هذا ما يدلّ عليه سياق الكلام، وهو نظير قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4]، ولأن "ما" عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والحطّ والإبراء، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه، لأنّ الإبراء والحطّ والتأجيل لا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما(37).
وما ذهب إليه أبو حيان هو الراجح لدلالة سياق الكلام عليه، ولأنّ الأقوال الأخرى لا دليل عليها، ولأنه لا خلاف في جواز الزيادة في المهر أو الحطّ منه.
الفرع السادس: الترجيح بالحقيقة على المجاز، يُقصدُ بالحقيقة هنا: اللفظ المستعمل فيما وضع له ابتداءً، والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقةٍ مع قرينة(38)، والأصل أن يحمل اللفظ على الحقيقة إلا إذا تعذّر حمله عليها، فيحمل عندئذٍ على المجاز، وقد رجّح أبو حيان في تفسيره بعضَ الأقوال بناءً على حمل اللفظ على الحقيقة، ومثاله قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، فقل نقل أبو حيان عدة أقوال في معنى {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}، وهي:
القول الأول: أي من الجهة التي أمر الله تعالى، وهو القُبُل، لأنه المنهي عنه في حال الحيض، وهو قول ابن عباس والربيع.
القول الثاني: أي من قِبَل طهرهنَّ لا من قِبَل حيضهن، وهو قول عكرمة وقتادة والضحاك، ويصير المعنى: فأتوهن في الطهر لا في الحيض.
القول الثالث: أي من قِبَل النكاح لا من قِبَل الفجور، وهو قول محمد بن الحنفية.
القول الرابع: أي من حيث أُحل لكم غشيانهن، بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات، وهو قول الأصم(39).
وقد رجح أبو حيان القول الأول، حيث قال: "والأول أظهر، لأن حمل "حيثُ" على المكان والموضع هو الحقيقة، وما سواه مجاز"(40)، ومما يقوي هذا الترجيح أن القُبل هو الذي أمر الله تعالى بتجنبه في الحيض بقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}.
الفرع السابع: الترجيح باللغة: لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم بأفصح لسان وأبلغ بيان، قال سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ* بِلِسَاٍن عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195]، ولقد كان أبو حيان من أجّل علماء اللغة، إضافة إلى كونه مفسراً، وقد كانت اللغة إحدى ركائزه في ترجيحاته، ويتمثل ذلك في الآتي:
أولاً: ترجيح وجهٍ من وجوه الإعراب على آخر، ومثاله قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} النساء:22، فقد نقل أبو حيان قولين في إعراب "ما" من قوله تعالى: {مَا نَكَحَ}، وهما:
القول الأول: أنها مفعول به، وأنها واقعة على النوع، كما في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، أي: ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم، وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أنها مصدرية، أي ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الفاسد الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره، واختار هذا القول محمد بن جرير الطبري.
وقد رجح أبو حيان القول الأول بعد الاستدلال له من اللغة، قال: "وقد تقرّر في علم العربية أن "ما" تقع على أنواع من يعقل... وعلى هذا المفهوم من إطلاق "ما" على منكوحات الآباء تلقت الصحابة الآية واستدلوا بها على تحريم نكاح الأبناء حلائل الآباء(41)، يقول ابن العربي: والمعنى الصحيح: ولا تنكحوا نساء آبائكم، ولا تكون "ما" هنا بمعنى المصدر، لاتصالها بالفعل، وإنما هي بمعنى الذي وبمعنى مَن"(42).
أمّا أصحاب القول الثاني، فحجتهم أن "ما" لا تستعمل للعاقل، قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاحَ آبائكم، ويكون قوله: "ما نكح آباؤكم" بمعنى المصدر"(43)، على أنّ ما ذهب إليه أبو حيان هو الراجح، لأن "ما" تستعمل مع أنواع من يعقل، لكن يمنع استعمالها على أفراد من يعقل، كما هو مذهب سيبويه، على أنّ الطبري يوافق الجمهور في أن هذه الآية تحرم نكاح زوجات الآباء على الأبناء، إلا أنّ الجمهور يقولون بأن الآية نصٌّ في المسألة والآية مساقة لها، أما الطبري فإنه يقول بأنها تحرم ذلك تبعاً لنهيها عن المناكح الفاسدة التي كان يفعلها الآباء، ومن بينها نكاح زوجة الأب.
ثانياً: ترجيح عود الوصف إلى موصوف دون آخر، ومثاله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، والربيبة هي بنت امرأة الرجل من غيره، وقد نقل أبو حيان قولين في شروط تحريم الربيبة، وهما:
القول الأول: أن تكون في حجر الزوج وأن يدخل بأمها، فإذا فقد أحد الشرطين لم تحرم، وإلى هذا ذهب علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وابن عباس، وبه أخذ داود وأهل الظاهر، فلو لم تكن في حجره وفارق أمها بعد الدخول جاز له أن يتزوجها.
القول الثاني: أنْ يدخل بأمها وإن لم تكن في حجر الزوج، وهو قول الجمهور، قال الطحاويّ وغيره: إضافتهن إلى الحجور حملاً على أغلب ما يكون الربائب.
ويمكن إرجاع الخلاف هنا إلى التردّد في مرجع الصفة، فقوله تعالى: {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} صفة يمكن إرجاعها "لنسائكم" الثانية فقط، كما عليه الجمهور، ويمكن إرجاعها إليها وإلى التي قبلها في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، كما قال أهل الظاهر ومن معهم، فالذين أرجعوا الصفة لـ"نسائكم" الثانية فقط، قالوا: تحرم الربيبة وإن لم تكن في حجر الزوج إذا دخل بأمها، والذين أرجعوا الصفة إليها وإلى التي قبلها، قالوا لا تحرم الربيبة إلا إذا دخل بأمها وأن تكون في حجر الزوج.
وقد رجّح أبو حيان عود الصفة لـ"نسائكم" الثانية فقط، موافقاً بذلك رأي الجمهور، حيث قال: "ظاهر هذا أنه متعلق بقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} فقط، و{اللَّاتِي}: صفة لنسائكم المجرور بمن، ولا يجوز أن تكون اللاتي وصفاً لنسائكم من قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ونسائكم المجرور بمن، لأنّ العامل في المنعوتين قد اختلف، هذا مجرور بمن، وذاك مجرور بالإضافة"(44).
وقد ذكر ابن العربي أن خلافاً وقع بين الكوفيين والبصريين في جواز رجوع الصفة إلى موصوفين مختلفي العامل، فجوزه أهل الكوفة ومنعه أصل البصرة(45)، على أن أبا حيان لم يشرْ إلى خلاف الكوفيين مع البصريين في هذه المسألة، مع أنه يذكره غالباً.
ثالثاً: ترجيح إطلاق أقل الجمع على عددٍ دون آخر، ومثاله قوله تعالى: {فإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11]، فقد نقل أبو حيان قولين في العدد الذي يحجب الأم من الثلث إلى السدس، وهما:
القول الأول: اثنان من الإخوة أو الأخوات فصاعداً يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وهو قول أكثر الصحابة والعلماء.
القول الثاني: لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس إلا ثلاثة من الإخوة أو الأخوات فصاعداً، وهو قول ابن عباس، وهو ما رجّحه أبو حيان.
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هو: هل أقل الجمع اثنان أو ثلاثة؟ فمعظم أهل العلم على أن أقل الجمع اثنان، ولذلك قالوا إن الأخوين حكمهما في حط الأم من الثلث إلى السدس حكم الثلاثة فصاعداً، يقول الزمخشري: "الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدلّ بالإخوة عليه"(46).
أما ابن عباس فيرى أن أقل الجمع ثلاثة، ولذلك قال إنّ الذين يحطون الأم من الثلث إلى السدس ثلاثة من الإخوة أو الأخوات فصاعداً".
ولم يسلم أبو حيان للزمخشريّ دعواه أنّ الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، "بل إنها تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل"(47).
وما رجحه أبو حيان في هذه المسألة جانب فيه الصواب، بل خالف فيه ما يشبه الإجماع، قال الواحدي: "ويجوز تسمية الاثنين بالجمع، وقد أجمعت الأُمَّة على أنَّ الأخوين يحجبان الأمَّ من الثُّلث إلى السُّدس"(48)، وقال القرطبيّ: "وأجمع أهل العلم على أن الأخوين فصاعداً ذكراناً كانوا أو إناثاً من أبّ وأمّ، أو من أبّ أو من أمّ، يحجبون الأمّ عن الثلث إلى السدس، إلا ما روي عن ابن عباس أن الاثنين من الإخوة في حكم الواحد، ولا يحجب الأمّ أقل من ثلاث"(49)، وقال صاحب المنار: "واختلفوا في الأخوين أو الأختين، فأكثر الصحابة على أنهما كالجمع في حجب الأم من الثلث إلى السدس، وعليه العمل من الصدر الأول، وخالف فيه ابن عباس"(50).
الفرع الثامن: الترجيح بالقياس، وهو إلحاق واقعة لا نصّ على حكمها، بواقعة ورد نصّ بحكمها، في الحكم الذي ورد به النصّ، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم(51)، وقد رجح أبو حيان بهذا الوجه في مسائل قليلة في تفسيره، ومثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فقد نقل أبو حيان قولين في حكم طلاق السكران:
القول الأول: وقوع طلاقه، وهو قول عمر ومعاوية وأبي حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي، وأحد قولي الشافعي.
القول الثاني: عدم وقوع طلاقه، وهو قول عثمان وابن عباس وعطاء وأبي ثور والمزني والطحاوي، والقول الثاني عند الشافعي.
أما أبو حيان؛ فقد رجح القول الأول بعدم وقوع طلاق السكران، حيث قاس السكران على المعتوه ومن ذهب عقله بالبنج، بجامع أنّ كلا منهما لا يعلم ما يقول، قال أبو حيان: "وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول... واختاره الطحاوي، وقال: قد أجمع العلماء على أنّ طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس، معتوه بالوسواس، ولا يختلفون في أن طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب"(52).
على أنه مما ينبغي التنبيه إليه، أنّ الخلاف هو في السكران المتعدي بسكره، إذ لا خلاف بين العلماء في عدم وقوع طلاق السكران غير المتعدي بسكره، كمن شرب شراباً ظنه غير مسكر فكان مسكراً، أو أكره على السكر، أو شرب دواءً فأسكره(53).
الفرع التاسع: الترجيح بالمفهوم، والمفهوم هو ما دلّ عليه اللفظ في غير محلّ النطق، وهو قسمان؛ مفهوم الموافقة: وهو ما يكون مدلول اللفظ في محلّ السكوت موافقاً لمدلوله في محلّ النطق، ومفهوم المخالفة: وهو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت، ويسمى دليل الخطاب، وله عدة أنواع؛ مفهوم الصفة والشرط والحصر والغاية واللقب(54)، ومن استقراء ترجيحات أبي حيان وجدناه يرجح بمفهوم الصفة ومفهوم الشرط.
أولاً: الترجيح بمفهوم الصفة، وهو دلالة النصّ الذي قيد فيه الحكم بصفة، على انتفاء الحكم عما انتفت عنه هذه الصفة(55)، ومثاله قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، فقل نقل أبو حيان ثلاثة أقوال في حكم نكاح الأمة الكافرة، وهي:
القول الأول: لا يجوز وطء الأمة الكافرة، كتابية كانت أو غيرها، لا بنكاح ولا بملك يمين، وهو قول مالك وجماعة.
القول الثاني: يجوز نكاح الأمة الكافرة، بملك اليمين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
القول الثالث: يجوز نكاح الأمة المجوسية، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار، قالوا: إن قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} يقصدُ به الحرة لا الأمة المشتراة، كما احتجوا بسبي أوطاس، وأنَّ الصحابة نكحوا الإماء منهم بملك اليمين.
وقد رجّح أبو حيان القول الأول، قال: ومفهوم الصفة يقتضي أنه لا يجوز وطء الأمة الكافرة، كتابية كانت أو غيرها، لا بنكاح ولا بملك يمين...، وقد استدلّ بعضهم بقوله تعالى: {خَيْرٌ} على جواز نكاح المشركة، لأنّ أفعل التفضيل يقتضي التشريك، ويكون النهي على سبيل الكراهة، قالوا: والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين، ولا حجّة في ذلك، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد لا على سبيل الوجود، ومنه قوله تعالى: {أصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24](56).
ثانياً: الترجيح بمفهوم الشرط، وهو ما دخل عليه أحد الحرفين؛ إن أو إذا أو ما يقوم مقامهما، مما يدلّ على سببية الأول ومسببية الثاني(57)، وهذا هو الشرط اللغوي، وهو المراد هنا، ومثاله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25]، فقد نقل أبو حيان ثلاثة أقوال في حكم نكاح الأمة، وهي:
القول الأول: لا يتزوج الأمةَ إلا من لم يجد طَولاً للحرة وخاف العنت، وأن تكون الأمة مؤمنة، والطَول هو القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم، وهو قول ابن عباس وجابر والشعبي ومكحول.
القول الثاني: له أن تنكح الأمة وإن كان موسراً، وهو قول علي وأبي جعفر وابن المسيب والزهري.
القول الثالث: يتزوجها إن خشي إن يزني بها.
أما أبو حيان؛ فقد رجح القول الأول، أخذاً بالشروط التي وردت في الآية الكريمة، قال: "واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة، وظاهر الآية يدلّ على أن من لم يستطع ما يتزوّج به الحرة المؤمنة وخاف العنت فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة"(58)، وفي تفسيره قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]، قال: "ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة...، والذي دلّ عليه ظاهر القرآن، أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط؛ اثْنَانِ فِي الناكح، وهما: عدم طول الحرّة المؤمنة وخوف العنت، وواحد في الأمة وهو الإيمان"(59).
الفرع العاشر: الترجيح بظاهر القرآن، الأصل في نصوص القرآن الكريم أن تحمل على ظواهرها، وأنْ تفسر على حسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ، لأنه لا يُعرف مراد المتكلم إلا بالألفاظ الدالة عليه، وقد بين أبو حيان أنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر، إنما يكون لمرجح(60)، وقد أكثر أبو حيان في تفسيره من استخدام العبارات الدالة على الاستدلال بظاهر القرآن، كما رجّح بعض الأقوال لموافقتها لظاهر القرآن، ومثاله قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4] فقد ذكر أبو حيان ثلاثة أقوال في حكم أخذ الزوج من مال زوجته، وهذه الأقوال هي:
القول الأول: إذا وهبت المرأة لزوجها شيئاً من صداقها طيبة به نفسها، غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق أو سوء معاشرة، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به، ولم يوقت هذا بوقت، ولا رجوع فيه.
القول الثاني: لا تجوز هبة المرأة لزوجها ما لم تلد، أو تقم في بيته سنة، وهو قول الأوزاعي.
القول الثالث: إذا وهبت المرأة لزوجها شيئاً من صداقها فلها أن ترجع فيه، فقد كتب عمر إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك، وقال شريح: لو طابت نفسها لما رجعت.
وقد رجّح أبو حيان القول الأول لموافقته لظاهر الآية، وضعف قولين الثاني والثالث، قال: "وكلا قولين خلاف الظاهر من الآية"(61).
وقد رجّح كثير من المفسّرين ما رجحه أبو حيان، قال القرطبي: قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} مخاطبة للأزواج، ويدلّ بعمومه على أنّ هبة المرأة صداقها لزوجها بكراً كانت أو ثيباً جائزة؛ وبه قال جمهور الفقهاء، ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها، وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها، وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء؛ لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئاً، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة، والقول الأول أصحّ؛ لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر"(62).
أمّا عن رجوع المرأة عن هبتها لزوجها، فقد اتفق العلماء على أنّ المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه، إلا أن شريحاً رأى الرجوع لها فيه، واحتجّ بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفساً، قال ابن العربي: وهذا باطل؛ لأنها قد طابت نفسها وقد أكل فلا كلام لها؛ إذ ليس المراد صورة الأكل، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال، وهذا بين"(63).
على أن النزعة الظاهرية قد طغت على أبي حيان أحياناً حتى إنه رجح ما يخالف الإجماع في بعض الأحكام، ومثاله قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، فقد تحدث أبو حيان عن حكم ردّ المطلقة الرجعية، قال: "قالوا: ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي، وعن رضاها، وعن تسمية مهر، وعن الإشهاد على الرجعة على الصحيح، ويسقط بالرجعة بقية العدة، ويحل جماعها في الحال، ويُحتاج في إثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع، والذي يظهر لي أن المرأة بالطلاق تنفصل من الرجل، فلا يجوز له أن تعود إليه إلا بنكاح ثانٍ، ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها، فإما أن يبقى شيءٌ من عدتها أو لا يبقى، فإن بقي شيءٌ من عدتها فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح، ومفهوم الشرط أنه إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك، وإن انقضت عدتها، استوى هو وغيره في جواز تزوجها، أما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه، فإن كان ثمّ دليل واضح من نصّ أو إجماع قلنا به، ولا يعترض علينا بأنّ له الرجعة على ما وصفوا، وإنّ ذلك من أوّليات الفقه التي لا يسوغ النزاع فيها، وأن كل حكم يحتاج إلى دليل"(64).
وما رجّحه أبو حيان في هذه المسألة خالف فيه الإجماع، يقول القرطبي: "قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} حكم خاصّ فيمن كان طلاقها دون الثلاث، وأجمع العلماء على أن الحرّ إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولاً بها، تطليقة أو تطليقتين، أنه أحقّ برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة،"(65)، ويقول ابن العربي: إن الزوج له الرجعة في العدة بلا خلاف"(66).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبتوفيقه تُدرك الغايات، والصلاة والسلام على من ختمت برسالته الرسالات، أما بعد:
أما وقد منَّ الله تعالى عليَّ بإتمام هذا البحث، فإنني سأذكر وبإيجاز أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها:
أولا: النتائج:
1. إنّ أبا حيان قد اعتنى في تفسيره، بالمسائل المتعلقة بأحكام الأسرة، إلا أنه لم يُعنَ كثيراً بذكر أدلّة هذه المسائل ومناقشتها، فقد كان يكتفي بنقل الأقوال المختلفة في هذه المسائل ويرجح بينها أحياناً، ويحيل على كتب الفقه أحياناً أخرى.
2. كان أبو حيان يتصف بالاعتدال والإنصاف والبعد عن التعصب المذهبي، فقد كان يتفق مع صاحب الرأي الراجح في كثير من الأحيان، بغضّ النظر عن مذهبه الفقهيّ، فقد وافق أصحاب المذاهب الفقهية وخالفهم، ووافق أهل الظاهر وخالفهم، ورغم أنّ النزعة الظاهرية طغت على أبي حيان في مسائل قليلة، إلا أنّ هذا لا يقلل من حسن تعامله مع مصادره الفقهية، فقد كان يتخير منها ما هو أكثر صواباً وأقرب إلى مدلول النص القرآني.
ثانياً: التوصيات:
يوصي الباحث بضرورة دراسة الجوانب الفقهية الأخرى في تفسير أبي حيان، كالعبادات والمعاملات والحدود وغيرها، وبيان اختيارات أبي حيان في هذه الجوانب، وتخريج الأحاديث وتوثيق النقولات والتعليق عليها، فهذا التفسير غني بمثل هذه المواضيع، وفيه استنباطات فقهية دقيقة انفرد بها أبو حيان، وهي على قلتها، قد لا يظفر بها الباحث في مصادر أخرى.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الأول، 1440هـ/ 2019م.
الهوامش
(1) حظي أبو حيان باهتمام المترجمين له قديماً، كما حظي باهتمام من تناوله بالبحث والدراسة حديثاً، لذا فقد آثرت الاختصار بإيراد نبذة موجزة عن التعريف به.
(2) خير الدين بن محمود بن محمد بن علي (ت1396هـ/1976م) الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، 2002م، (ط15) ج7، ص152.
(3) خليل بن أيبك بن عبد الله (ت764هــ/1362م) أعيان العصر وأعوان النصر، دار الفكر، بيروت، تحقيق: د.علي أبو زيد وآخرون، بيروت، دار الفكر، 1998م (ط1) ج5، ص325.
(4) الزركلي، الأعلام، ج7، ص152.
(5) انظر: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي (ت771هــ/10369م) طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي وآخرون، القاهرة، هجر للطباعة والنشر، 1413هـ (ط2) ج9، ص149-162.
(6) محمد بن يوسف بن علي، أبو حيان (ت745ه/1344م) البحر المحيط، تحقيق: صدقي محمد جميل، بيروت، دار الفكر، 2001م (ط1) ج1، ص12.
(7) رمضان يخلف، موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان، رسالة دكتوراه، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة الأمير عبد القادر الجزائري، 1995، ص483.
(8) أبو حيان، البحر المحيط، ج1، ص15.
(9) محمد بن مكرم بن علي بن منظور (ت711ه/1311م) لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1414هـ، ج2، ص445.
(10) محمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت606ه/1210م) المحصول، تحقيق: د. طه جابر العلواني، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1997م (ط3)، ج5، ص397.
(11) ابن منظور، لسان العرب، ج12، ص144.
(12) عبد الوهاب خلاف (ت1375ه/1956م) علم أصول الفقه، بيروت، دار القلم، 2010 (ط8) ص100.
(13) خلاف، علم أصول الفقه، ص101.
(14) ابن منظور، لسان العرب، ج4، ص19.
(15) علي عبد الواحد وافي، الأسرة والمجتمع، القاهرة، دار نهضة مصر، 1977م، (ط1) ص15.
(16) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص589.
(17) البخاري، صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث رقم (4825) ومسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان انه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ ثم استقر تحريمه إلى يوم القيامة، حديث رقم (3497).
(18) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص530.
(19) انظر: محمد بن احمد بن عرفة الدسوقي (ت1230ه/1815م) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، بيروت، دار الفكر، ج2، ص362.
(20) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص530.
(21) الترمذي، سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة ثم يموت عنها قبل الفرض لها، حديث رقم (1145).
(22) محمد بن عبد الله بن بهادر (ت794ه/1392م) البرهان في علوم القران، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار إحياء الكتب العربية، 1957م، (ط1) ج2، ص175.
(23) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص537.
(24) الرازي، المحصول، ج2، ص309.
(25) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص452.
(26) محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت671ه/1273م) الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: هشام سمير البخاري، الرياض، دار عالم الكتب، 2003م ، ج3، ص112.
(27) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص586.
(28) مسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث رقم (3506).
(29) مصطفى بن حسني السباعي (ت1384ه/1964م)، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، بيروت، المكتب الإسلامي، 1982م، (ط3) ج1، ص47.
(30) أبو حيان، البحر المحيط، ج10، ص200.
(31) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} حديث رقم (5013)، ومسلم، صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، حديث رقم (3796).
)32) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص175.
(33) عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه/1506م) الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م، ج1، ص116.
(34) أبو حيان، البحر المحيط، ج4، ص392.
(35) الدارقطني، سنن الدارقطني، كتاب النذور، حديث رقم (31).
(36) عبد الرحمن بن جاد الله البناني (ت1198ه/1784م) حاشية البناني على جمع الجوامع، بيروت، دار الفكر، 1401هـ، (ط1) ج1، ص20.
(37) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص590.
(38) الرازي، المحصول، ج1، ص286.
(39) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص426.
(40) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص426.
(41) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص574-575.
(42) محمد بن عبد الله بن العربي (ت543ه/1148م) أحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، 2003م، (ط3) ج1، ص475.
(43) محمد بن جرير الطبري (ت310ه/922م) جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2000م، (ط1) ج8، ص137.
(44) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص580.
(45) ابن العربي، أحكام القران، ج1، ص484.
(46) الزمخشري، محمود بن عمرو بن أحمد (ت538ه/1144م) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، بيروت، دار الكتاب العربي، 1407هـ، (ط3) ج1، ص483.
(47) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص541.
(48) علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت468ه/1076م) الوسيط في تفسير القرآن المجيد، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وآخرون، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994، (ط1) ج2، ص20.
(49) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 5/72.
(50) محمد رشيد بن علي رضا (ت1354ه/1935م) تفسير المنار، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ج4، ص431.
(51) خلاف، علم أصول الفقه، ج1، ص52.
(52) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص649-650.
(53) علي بن محمد بن محمد الماوردي (ت450ه/1058م) الحاوي الكبير، تحقيق: علي محمد معوض وعادل احمد عبد الموجود، بيروت، دار الكتب العلمية، 1999م، (ط1) ج10، ص419.
(54) علي بن محمد بن سالم الآدمي (ت631ه/1233م) الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: عبد الرزاق العفيفي، بيروت، المكتب الإسلامي، ج3، ص66.
(55) الآمدي، الإحكام، ج3، ص72.
(56) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص417-418.
(57) الآمدي، الإحكام، ج3، ص88.
(58) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص592.
(59) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص599.
(60) أبو حيان، البحر المحيط، ج1، ص417.
(61) أبو حيان، البحر المحيط، ج3، ص514.
(62) القرطبي، الجامع لأحكام القران، ج5، ص25.
(63) ابن العربي، أحكام القرآن، ج1، ص415.
(64) أبو حيان، البحر المحيط، ج2، ص460.
(65) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص120.
(66) ابن العربي، أحكام القرآن، ج4، ص280.