الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
قصة تقاضي علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الرجل النصراني أمام شريح القاضي يرويها الإمام البيهقي رحمه الله في " السنن الكبرى " (10/136)، في باب "باب إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما والإنصات لكل واحد منهما حتى تنفد حجته، وحسن الإقبال عليهما"، ورواية القصة عن الإمام الشعبي حيث يقول:
خرج علي بن أبي طالب إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعا، قال: فعرف علي الدرع فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين. قال: وكان قاضي المسلمين شريح، كان علي استقضاه. قال: فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء، وأجلس عليا في مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، فقال له علي: أما يا شريح لو كان خصمي مسلما لقعدت معه مجلس الخصم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصافحوهم، ولا تبدءوهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، وألجئوهم إلى مضايق الطرق، وصغروهم كما صغرهم الله)
اقض بيني وبينه يا شريح. فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: فقال علي: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان. قال فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ قال: فقال النصراني: ما أكذب أمير المؤمنين، الدرع هي درعي. قال فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده، فهل من بينة؟ فقال علي رضي الله عنه: صدق شريح. قال فقال النصراني: أما أنا أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. قال: فقال علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك. وحمله على فرس عتيق، قال فقال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين.
وقد بحثنا في هذه القصة فتنبين أنها تشتمل على ما يضعف الثقة بتفاصيلها:
أما من حيث الإسناد، فقد قال ابن الملقن رحمه الله: "في إسناد هذا الحديث ضعفاء، أولهم أسيد بن زيد الجمال، قال يحيى: هو كذاب. الثاني عمرو بن شمر الجعفي وهو ضعيف جدا. وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح: هذا الحديث لم أجد له إسنادا يثبت" انتهى من "البدر المنير" (9/599)
وأما من حيث المتن، فلا يستغرب هذا العدل والإنصاف الذي عاشته الرعية في زمان الخلفاء الراشدين، وحوادث التاريخ والسيرة مليئة بمثل هذه النماذج السامية من صور تحقيق العدل واستقلال القضاء الشرعي، ولا نستبعد أن يكون للقصة أصل قائم، غير أن المتن في رواية البيهقي يشتمل على حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخالف الأحاديث الصحيحة، فقوله في الحديث: (ولا تصافحوهم) لم يثبت في السنة النبوية، وقوله: (ولا تعودوا مرضاهم) يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعود أهل الكتاب، حتى ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أَنَّ غُلَامًا مِنَ اليَهُودِ كَانَ يَخدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ ، فَقَالَ : أََسلِم . فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَ رَأسِهِ ، فَقَالَ لَه : أَطِع أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ . فَأَسلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ ). والله أعلم.