الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
عقوق الوالدين المحرم هو مخالفة أمرهما بما يؤدي إلى أذيتهما، ولم يكن لأمرهما مصلحة ظاهرة لهما، ولا أثرا بالغا عليهما، وإنما نشأ عن رغبة نفسية، أو هوى قلبي.
ولذلك لا يجب على الولد طاعة والديه في الزواج من الفتاة التي لا يرغب بها، كي لا يقصر في حقها، ولا يستأنس بها، ولكن يجب عليه أن يحسن الاعتذار إليهما، والتخلص من أمرهما.
وقد جاء في "كشاف القناع" (5/8) من كتب الحنابلة: "ليس لأبويه إلزامه بنكاح من لا يريد نكاحها له، لعدم حصول الغرض بها، فلا يكون عاقا بمخالفتهما في ذلك، كأكل ما لا يريد أكله" انتهى.
والنصيحة للوالدين أن لا يجبرا ابنهما على الزواج ممن لا يرغب فيها، كي لا يؤدي ذلك إلى مفاسد تلحق بالأسرة الجديدة. والله أعلم.
فائدة: ننقل ههنا - لمزيد من الاطلاع - فتوى مدققة للعلامة ابن حجر الهيتمي، يشرح فيها الحد الفاصل بين ما يجب على الولد طاعة والديه فيه، وما لا يجب فيه الطاعة.
جاء في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/128-129):
"سئل رضي الله عنه: عن رجل له ولد عاقل بالغ رشيد، فأراد الولد التردد إلى الفقهاء لقراءة العلم، واستعارة الكتب، ونحو ذلك مما لا يستغني عنه طالب العلم، وكذا الخروج لقضاء حوائجه، أو زيارة الصالحين، أو نحو ذلك من القُرَب، فمنعه الوالد من ذلك، وأمره بالقعود في البيت، وعلل ذلك بأنه يخشى عليه من صحبة الأشرار، والولد لا يرتاب في حاله أنه يكره ذلك، ويحترز منه.
فهل للولد ذلك أم لا، وإذا أراد الولد السفر لطلب العلم والوالد تشق عليه المفارقة فهل للولد ذلك أم لا، وإذا أراد الولد التقشف والزهد في الدنيا وغيرها فكره الوالد ذلك فهل للولد ذلك أم لا، وإذا أمره والده بأمر مباح لا يتعلق بالوالد فهل يلزم الولد امتثاله، وإذا أمره بما فيه خلاف بين الفقهاء، وكانت عقيدة الولد في ذلك مخالفة لعقيدة والده، فهل يلزمه امتثاله اعتبارا بعقيدة الوالد، أم يحرم اعتبارا بعقيدة نفسه، وما حد البر والعقوق؟
فأجاب بقوله:
إذا ثبت رشد الولد - الذي هو صلاح الدين والمال معا - لم يكن للأب منعه من السعي فيما ينفعه دينا أو دنيا، ولا عبرة بريبة يتخيلها الأب مع العلم بصلاح دين ولده وكمال عقله.
نعم إن كان في البلد فجرة يأخذون من خرج من المُرد إلى السوق مثلا قهرا عليهم: تأكَّد على الولد إذا كان كذلك أن لا يخرج حينئذ وحده، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الوقوع في مواطن التهم، فأمْرُ الوالد له في هذه الحالة بعدم الخروج مع الخوف يعذر فيه، فلا يجوز للولد مخالفته إذا تأذى الوالد بذلك تأذيا ليس بالهين، ولم يضطر الولد للخروج.
وحينئذ لا نظر لكراهة الوالد له حيث لا حامل عليها إلا مجرد فراق الولد؛ لأن ذلك حمق منه، وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت إليه، أخذا مما ذكره الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته.
وكذا يقال في إرادة الولد لنحو الزهد ومنع الوالد له: أن ذلك:
إن كان لمجرد شفقة الأبوة: فهو حمق وغباوة، فلا يلتفت له الولد في ذلك.
وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه: يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره.
ومحله أيضا حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل؛ لأني أقيد حل بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مع والده ما يتأذى به إيذاء ليس بالهين بما إذا كان قد يعذر عرفا بتأذيه به، أما إذا كان تأذيه به لا يعذره أحد به؛ لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خلق، وحدة حمق، وقلة عقل: فلا أثر لذلك التأذي، وإلا لوجب طلاق زوجته لو أمره به، ولم يقولوا به.
فإن قلت: لو ناداه وهو في الصلاة اختلفوا في وجوب إجابته، والأصح وجوبها في نفل إن تأذى التأذي المذكور، وقضية هذا أنه: حيث وجد ذلك التأذي - ولو من طلبه للعلم أو زهده أو غير ذلك من القُرَب - لزمه إجابته؟
قلت: هذه القضية مقيدة بما ذكرته: أن شرط ذلك التأذي أن لا يصدر عن مجرد الحمق ونحوه كما تقرر.
ولقد شاهدت من بعض الآباء مع أبنائهم أمورا في غاية الحمق، التي أوجبت لكل من سمعها أن يعذر الولد، ويخطِّئ الوالد فلا يستبعد ذلك.
وبهذا يعلم أنه لا يلزم الولد امتثال أمر والده بالتزام مذهبه؛ لأن ذاك حيث لا غرض فيه صحيح مجرد حمق.
ومع ذلك كله فليحترز الولد من مخالفة والده، فلا يقدم عليها اغترارا بظواهر ما ذكرنا، بل عليه التحري التام في ذلك، والرجوع لمن يثق بدينهم وكمال عقلهم، فإن رأوا للوالد عذرا صحيحا في الأمر أو النهي وجبت عليه طاعته، وإن لم يروا له عذرا صحيحا لم يلزمه طاعته، لكنها تتأكد عليه حيث لم يترتب عليها نقص دين الولد وعلمه أو تعلمه.
والحاصل: أن مخالفة الوالد خطيرة جدا، فلا يقدم عليها إلا بعد إيضاح السبب المجوز لها عند ذوي الكمال، وقد علم مما قررته حد البر والعقوق، فتأمل ذلك فإنه مهم" انتهى. والله أعلم.