الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الفتوى في الإسلام لها شأن عظيم، ومنزل رفيع شريف، ويدل على عظمة منزلتها أن الله تعالى نسبها لذاته العلية، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) النساء/127، وقال سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) النساء/176، وأول من قام بهذا المنصب سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الفتوى تعرف بأنها بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين لهم الحكم الشرعي، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل/44.
ولا ننكر أن هناك اختلافا في الفتوى من بلد إلى بلد، أو من مكان إلى آخر، وقد نشأ هذا الاختلاف مع نشأة المذاهب الفقهية المختلفة، لعوامل متنوعة مبثوثة في كتب العلماء في مسائل ظنية تختلف فيها المدارك والأفهام، فالمختلفون في ذلك الوقت لم يقصدوا الاختلاف لذاته، بل كان غايتهم واحدة، وهي الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي هو مراد الشارع سبحانه، فهم وإن اختلفوا فإنهم متفقون من جهة القصد إلى موافقة الشارع سبحانه، وهذا الاختلاف إن دلَّ على شيء فإنما يدل على سعة هذه الشريعة ومرونتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
ونشير هنا إلى أن الاختلاف في الفتوى إنما يكون في المسائل الفرعية التي يمكن أن تختلف فيها فهوم المجتهدين، وأما المسائل الكلية ومسائل أصول العقائد فلا يوجد فيها اختلاف في الشريعة الإسلامية، والاختلاف في الفروع أمر من لوازم البشر لا يمكن رفعه ولا منعه أو دفعه، وهو لا يشكل خطراً على الأمة، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم والعلماء من بعهدهم يختلفون في الفروع مع اتحاد كلمتهم وتوحيد صفوفهم، بل هو مظهر من مظاهر الرحمة والسماحة في هذه الشريعة، وقد قال الإمام مالك رضي الله عنه لهارون الرشيد عندما أشار عليه أن يحمل الناس على كتبه: "يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كلٌّ يتّبع ما صح عنده، وكلهم على الهُدى، وكلٌّ يريد الله تعالى".
لكن لا بد أن يكون الاختلاف الفقهي الذي نجم عنه اختلاف في الفتوى مستنداً إلى دليل شرعي معتبر، أما إذا لم تكن الفتوى مستندة إلى دليل شرعي معتبر فإنها قول بالهوى والتشهي، وهذا هو الخلاف المذموم.
وفي العالم الإسلامي الآن يوجد مجامع فقهية تضم نخبة من العلماء الموثوقين وتصدر عنها الكثير من الفتاوى النيرة، والقرارات الفقهية المستندة إلى الأدلة الشرعية صحيحة. والله أعلم.