الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الأصل في التعامل بين الناس قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار) رواه أحمد في "المسند" (1/313)، فكل ما يضر بالآخرين ضررًا غير مشروع ممنوع شرعًا، أما الضرر المشروع فهو كبيع مال المفلس لوفاء دَينٍ عليه عجز عن الوفاء به؛ ذلك لأن الضرر هنا لا بد منه، والإضرار بمن استدان ما لا يقدر على الوفاء به أولى من الإضرار بصاحب المال الذي داينه.
وبعض الأمور قد يكون ظاهرها الإباحة، لكن إذا كان فعلُها يضر بالآخرين ينبغي البعد عنها، ومثال ذلك مَن بنى في أرضه بناء عاليًا يحجب الشمس أو الريح عن جاره. فهذا لا يحرم عليه أن يبني في ملكه، لكن إن كان قصده الإضرار أتم فيما بينه وبين الله تعالى.
وهنا يأتي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ -ثَلاثَ مَرَّاتٍ- الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ) رواه أحمد في "المسند" (4/228)، ومِن معناه أن الإنسان ينبغي له أن يحذر مِن فعل ما لا يرضاه مِن الآخرين، أما فتوى المفتي فبحسب الظاهر، وبما تقتضيه قواعد الشريعة.
وبناء على هذا نجيب على الأسئلة الواردة في كتابكم:
ج1/أ. أما طلب شراء مثل ما باع المصنع للمستورد الأول فلا بأس فيه؛ لأنه لا يشتري نفس المنتج الأول، بل يشتري مثله، كالذي يستورد أرزًا من نوع معين، يستورده غيرُه أيضًا، ولهذا لا يعد شراء أعداد جديدة من ذلك المنتج شراءً على شراءِ الغير، والذي ورد النهي عنه.
وأما طلب التوقف عن بيع المنتَج للمستورد الأول فلا يجوز؛ لأن فيه إضرارًا بالمستورد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار) رواه أحمد في "المسند" (1/313)، فإن كان لهذا الطلب وجه شرعي، كما لو كان المستورد الأول يغش البضاعة ويبيعها، فلا مانع من طلب التوقف عن التوريد له، لكن مع العمل على توفيرها في السوق غير مغشوشة.
ج1/ب. هذا أيضًا لا بأس به؛ لأن البضائع تتشابه، سواء كانت من مصنع واحد أم من عدة مصانع، والذي يفرِّق بين أنواع البضائع هم الخبراء وبعض المستهلكين من خلال خبرتهم، وليس لمن صنع بضاعة أن يمنع غيره من صناعة مثلها، ما لم يكن قد اخترعها وأعطى حق الحماية إلى مدة معينة، فكيف يمنع نفس المصنع عن صناعة مثلها، والغش هو إخفاء العيب لكي يظهر الرديء بصورة الجيد، كالذي أخفى القمح المبلل بالماء بقمح غير مبلل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) رواه مسلم (رقم/102).
ج1/ج. المعروف أن ثمن البضاعة يقدر بحسب رغبة الناس فيها، وهذا يتأثر بأسباب كثيرة، وكلما كثر الإنتاج الزراعي أو الصناعي رخص سعره، وهذا فيه مصلحة للمستهلك.
هذا هو الأصل، لكن إذا اتخذ أحد الناس أسلوبًا يؤدي إلى خسارة غيره فهذا حرام، والخسارة غير انخفاض السعر عن المقدار الذي قرره التاجر لبضاعته.
ج2. الجواب على هذا يعرف مما سبق، فإذا كان يجوز طلب شراء مثل البضاعة من غير سبب، فطلب الشراء في مثل هذه الحالة أَوْلى بالجواز.
ج3/أ. لا فرق فيما سبق بين المواد الغذائية وغيرها، لكن المواد الغذائية الأساسية يحرم احتكارها - أي: شراؤها ثم حبسها عن الناس حتى يرتفع سعرها - فإذا حصل هذا وجب على الدولة وعلى التجار العمل على استيراد الأغذية لكسر هذا الاحتكار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ ) رواه مسلم (رقم/1605). وكسر الاحتكار تفريج لكربة الناس.
ج4- الأحاديث الشريفة واردة في بيع وشراء سلعة معينة، كمن اشترى سيارة فجاء من يقول للمشتري افسخ البيع وأنا أبيعك مثلها بأرخص، أو قال للبائع افسخ البيع وأنا أشتريها منك بأكثر.
أما الأسئلة الواردة فليست في سلعة واحدة، بل في نوع من السلع والبضائع، والمنافس يريد أن يشتري مثل الذي اشتراه غيره أو يبيع مثل الذي باعه غيره دون فسخ العقود التي أبرمت مع المشتري أو البائع.
وأذكِّرُ مرةً أخرى بأن الضرر والإضرار حرام، سواء وقع على التاجر أو وقع على المستهلكين، وتفرد تاجر ببيع نوع من البضاعة يؤدي إلى رفع سعرها ويضر بالمستهلكين، كما أن البيع بأقل من سعر التكلفة يضر بالتاجر الذي يبيع ذلك النوع من البضاعة.
والله تعالى أعلم.