الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
مِن أهم المقاصد التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها مقصدان رئيسيان، هما: حفظ الأنساب من الاختلاط والضياع، ودرء المفاسد عن البلاد والعباد.
وعلى هذين المقصدين اعتمد اجتهاد الفقهاء المعاصرين كافة في موضوع "الاستنساخ"، فقررت جميع المجامع والهيئات والمؤسسات الشرعية بالإجماع منع وتحريم "الاستنساخ الخلوي" -الذي يتم فيه إحداث تلقيح البُيَيْضة عن طريق خلية من الجسـم غير منوية- منعًا مطلقًا، وأنه لا يجوز تحت أي ذريعة من الذرائع، لما فيه من ضياع للأنساب، ولما فيه من خطورة بالغة على المنظومة المجتمعية، اقتضت تجريم هذا العمل من قبل أكثر القوانين الوضعية في العالم اليوم.
ويلحق به أيضًا النوع الثاني من الاستنساخ البشري، وهو "الاستنساخ الجنيني"، ويسميه البعض: (الاستتآم)، والذي يتم بتلقيح البييضة بماء الزوج، وعند الانقسام تفصل الخلايا كل خلية على حدة لتكون نسخاً متعددة، ثم تودع في رحم الزوجة.
فهذا النوع وإن كان أخف بلاء من الأول، إلا أن فيه من المفاسد الكبيرة أيضًا ما يقتضي منعه إلا في حالات علاجية خاصة، كحال المرأة التي لا يثبت لها حمل، فتحتاج إلى الاستنساخ والتجميد لهذه الغاية.
أما أنواع الاستنساخ النباتي والحيواني الأخرى فالحكم فيها يتبع الغرض والغاية المرجوة منها، فإن كانت بقصد البحث العلمي المفيد في مجال تحسين النوع أو العلاج أو استخلاص العقاقير أو زراعة الأعضاء ونحو ذلك: فليس في الشريعة ما يمنع أو يحرم هذا العمل لذاته، إلا إذا خرج الأمر عن الاعتدال إلى حد قصد الضرر، أو العبث، أو الاستهتار، أو إنتاج سلالات خطيرة على الحياة البشرية.
وهكذا يمكن تلخيص المدى العلمي الذي يسمح به الدين في مجال الاستفادة من الاستنساخ -غير البشري- بكلمتين اثنتين: جلب المصالح، ودرء المفاسد.
والأمر في ضبط هذه المصالح والمفاسد يرجع إلى أهل الخبرة والاختصاص من العلماء والفقهاء والمسؤولين الذين يُغَلِّبُون الصالح العام على الصالح المادي أو الشخصي، وليس إلى شركات الدواء الطامعة، ذات النفوذ والتأثير الكبيرين على الساحة الاقتصادية اليوم.
ومن الجوانب المهمة التي تؤثر في اعتماد الرأي الصائب في هذا الموضوع:
1- تشكيل جنين من غير أب، وإذا كانت الشريعة الإسلامية تُحَرِّمُ تشكيل جنين من رجل لم يرتبط بالأم رباطًا شرعيًّا، فماذا يُقال في تشكيل جنين بلا أب.
2- العالم يشكو من كثرة البشر، ويعمل على تحديد النسل، وبغض النظر عن الجائز وغير الجائز منه فإن الاستنساخ يسير في اتجاه معاكس ليخدم فئةً مُعَيَّنةً في المجتمع هم -غالبًا- الأغنياء وأصحاب النفوذ.
3- احتمالية الفشل في التجارب كبيرة جدًّا، وهذا يعني تلف وإتلاف الكثير من الأجزاء البشرية والأجنة الإنسانية، فأين احترام الإنسان.
4- احتمالية إنتاج إنسان يعمر قصيرًا أو شكل مقزم، وهذا عكس ما يدعو إليه الجميع من دعوى لتحسين النسل، صحيح أنَّ هذا غير عام، لكنه ممكن لأغراضٍ تجارية كما جاء في البحوث.
5- الموضوع ما زال في طور البحث، لم تتضح نتائجه ولا مخاطره، ويخشى أن تكون دول العالم الثالث -ونحن منهم- حقلاً لهذه التجارب.
6- الاستنساخ في غير البشر هو في بعض صوره عبث بمخلوقات أخرى أَمَرَنا الله تعالى بالإحسان إليها، ومِن مفاخر الإسلام أنه مَنَعَ قتل الحيوان إلا بطريقة الذبح، ومِن أجل غذاء الإنسان، فإذا كان لا يؤكل شرعا حرم قتله إلا إذا كان مؤذيا.
7- اختلاط شخصية الأب بالابن، فهل هو ابنه؟ أم جزء منه؟ أم شقيقه؟ وهذا يستتبع اعتباراتٍ حقوقيةً كثيرة.
8- احتمال الخطأ المدمر في هذه التجارب، بحيث يندم الناس كما ندموا على الإنتاج النووي.
والله أعلم.