الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الجواب على هذا ينبني على معرفتنا بواجب مجلس النواب، والمعروف لدى المهتمين بالأمور القانونية أن مجلس النواب هو أحد جهازي السلطة التشريعية، والجهاز الآخر هو مجلس الأعيان.
ونحن نعلم أن التشريع لله تعالى، فالحلال ما أحلَّه، والحرام ما حرَّمه، والعلماء والمجتهدون يتوصلون بالبحوث الشرعية إلى معرفة حكم الله عز وجل، من خلال مراجعة نصوص الكتاب والسنة، ومعرفة ما أجمع عليه المجتهدون، والخبرة بطرق القياس، ولكن بعض القوانين هي من باب السياسة الشرعية والترتيبات الإدارية التي يجوز لولي الأمر أن يسنها للناس، ويجب على الرعية أن تلتزم بها لأنها غير مخالفة للنصوص الشرعية.
وفي زماننا توجد أجهزة في الدولة تُعِدُّ مشاريع القوانين، ثم تعرضها على السلطة التشريعية لإقرارها، أو تعديلها، أو رفضها.
والواجب الآخر لمجلس النوَّاب هو أن يراقب أداء السلطة التنفيذية لواجباتها، وذلك من باب التعاون على البر والتقوى.
ومن ملاحظة هذين الواجبين يتبين لنا أن المؤهل لعضوية مجلس النواب هو مَن يستطيع تمحيص القوانين، وملاحظة الألفاظ القانونية وما تحتمله من معانٍ، ويعرف مدى مطابقتها أو مخالفتها للشريعة الإسلامية، فليست كل المخالفات في درجة واحدة، فإن المكروه غير الحرام، كما أن المستحب غير الواجب، والضرورات التي تبيح المحظورات لها ضوابط لا يعرفها إلا الفقيه المتمكِّن، أو من يستشير فقيهًا متمكنًا.
وأما مراقبة السلطة التنفيذية فتحتاج إلى من تتوفر فيه الجرأة والموضوعية، بمعنى أن يراقب الأمور مراقبة الناقد البنَّاء، وليس الناقد الذي يحب الظهور، والفرق بينهما كبير، فالناقد البنَّاء هو الذي يتصور نفسه في مكان عضو السلطة التنفيذية من حيث واجبات الوظيفة، والإمكانيات المادية والمعنوية، بل والاعتبارات المحلية والدولية، ثم يرى هل يستطيع أن يفعل خيرًا مما يفعله هذا المسؤول، أو هل يستطيع أن يتجنب ما يفعله هذا المسؤول، فإن وجد أسلوبًا أفضل في الأداء الوظيفي قدم اقتراحه بكل إخلاص لله، وحرص على مصلحة الأمة، وإلا قدَّر عذرَ غيره كما يحب أن يقدِّرَ غيرُه أعذارَه.
وغنيٌّ عن القول أن هذا لا يمكن - لعضو مجلس النواب أن يقوم به - إلا إذا كان له مستشارون خبراء، يعرفون الأمور ويوازنون بينها، أو يكون عضوًا في مجموعة نيابية، لها خبراء يقدمون لهم هذه النصائح، وبعد ذلك يصرح في مجلس النواب بهذه الحقائق بروح الأخوة والتعاون، وإذا كان كل أو غالب أعضاء مجلس النواب بهذه الصفات، أمكن أن نتوقع من مجلس النواب القيام بواجبه الذي انتخب من أجله، ليكون العقل المدبِّرَ، والعينَ الساهرة، واللسان الجريء بالحق في هذا التجمع الذي يلتقي فيه وجهاء الأمة، وتقرر فيه القوانين التي يلزم بها المواطنون كافة.
وإذا اتضح هذا أصبح من نافلة القول أن يسأل عن حكم من يدفع المال لينتخبه المواطنون، أو إنفاق المال السياسي - كما يسميه البعض-، فهذا السؤال غير وارد، ومن العار على المواطن أن يتعامل مع هذه القضية بهذا الأسلوب، ومن العار أيضًا على النائب أن يحشد الأصوات لصالحه بهذه الطريقة، ومما يذم به المجتمع أن تكون المجالس النيابية قائمة على شراء الضمائر، وماذا يُتوقع ممن يرى المال كل شيء فيبيع صوته، أو يشتري صوت غيره، وماذا يتوقع منه إذا صار صاحب قرار!
إن المنطق يقول بأنه سيحاول أن يسترد ما دفع من خلال استغلاله لمنصبه، واستغلال المنصب جريمة يحاسب عليها القانون.
إنني أؤكد -وبكل ثقة- أن مواطنَنا لا يبيع صوتَه ولا ضميرَه، ولهذا فإنني ألوم الذين جعلوا هذه التصرفات الشاذة القليلة سمة كل المجتمع، وظاهرةً سيئةً غرق فيها الجميع.
إن بلدنا بلد الشرفاء بكل مواقفهم الخاصة والعامة، وتاريخنا يشهد لنا، فكم وقفنا إلى جانب الحق رغم الإمكانات المتواضعة، وكم جهرنا بكلمة الحق عندما سكت عنها الآخرون، وكم آوينا ممن ضاقت به بلده، وجار عليه أبناء عشيرته، وستبقى إن شاء الله هذه النخوة الإسلامية العربية سمة هذا البلد يستظل بها الجميع، ويستفيد منها من أراد أن يحق الحق ويبطل الباطل.
متمنيا لهذا البلد أن يمنحه الله مجلسًا نيابيًّا على قدر المسؤولية، ومتمنيًا لمجلس النواب القادم أن يوفق إلى كل خير، وأن يقوم بواجبه على أحسن وجه، لتكون فترة عمله مميزة بين كل الفترات، ومثالاً تقتدي به المجالس النيابية فيما بعد. والله الموفق.