الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الشريعة الإسلامية شريعةٌ سمحةٌ واقعية، قامت عليها حضارة عظيمة، وسعد بها المجتمع الإسلامي قرونًا عديدة، يوم كانت مطبَّقةً في حياة المسلمين؛ ذلك لأن أحكامها تنظِّم الحياة البشرية بما فيه مصلحةُ الجميع، وتجعل مِن كل مسلم رقيبًا على نفسه في تطبيق الأحكام الشرعية، سواء راقبته أجهزة الدولة أو لم تراقبه، بل إن المجتمع كلَّه مسؤولٌ أمام الله من خلال واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسؤول عن مراقبة تنفيذ الأحكام الشرعية؛ لأن المنكر هو ما خالف الشريعة وأضر بالناس.
والذي يقرأ قول الله تعالى عن نفسه: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) الأحزاب/43، ويقرأ قوله تعالى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ) التوبة/128، يفهم لماذا كان عظيمًا!
والذي يقرأ الأحكام الفقهية المتعلقة بالطرق التي سطَّرها فقهاؤنا قبل قرون، يعرفُ أنَّ مسألة الطرق وحسن استعمالها مسألةٌ مهمة قديمة حديثة، وليست من مستجدات العصر الحديث، والفواجع التي تسببها حوادث الطرق بعضها يُعَدُّ مخالفاتٍ شرعية، وهي في نفس الوقت تَخَلُّفٌ حضاريٌّ ندفع ثمنه من أغلى ما لدينا، وهو الإنسان.
وتستمر المواجع في القلوب والأُسَرِ ما دُمنا نذكر أعزَّاءً علينا فقدناهم بسبب حوادث الطرق، مما يجعل البعض يتشاءم من وسائل النقل الحديثة، ويعتبرها بلاءً يتمنى لو صُرف عن الناس، والواقع أن وسائل النقل نعمةٌ امتنَّ الله بها علينا، ولكن الشؤم في عدم اتباع المنهاج الصحيح في استعمال هذه الوسائل.
إن الشريعة الإسلامية تقرر أن الطريق العام هو ملك للجميع، وعلى من استعمله أن يستعمله بما لا يضر بالآخرين، كما يجب على الجميع أن يراعي حرمة الطريق، وأن لا يحدث في الطريق ما يؤثر على سلامة المستخدمين له، فقد قرر الفقهاء الأحكام التالية:
1. مَن حفر حفرة في الطريق العام -بدون إذن ولي الأمر ولغير مصلحة عامة-؛ يكون مسؤولاً عن كل ضرر حدث بالمارة بسبب تلك الحفرة، حتى لو أدت تلك الحفرة إلى وفاة إنسان وجب على من حفرها أن يدفع دية المتوفَّى، وأن يصوم شهرين متتابعين كفارة إزهاق النفس.
2. مَن ألقى في الطريق العام ما يؤدي إلى انزلاق المارة (مثل قشر الموز أو البطيخ أو الزيوت)، إذا زلقت بها قدم أحد المارة فتضرر أو مات كان مَن تسبب في ذلك مسؤولاً عن الضرر.
3. مَن وضع في الطريق العام بضاعة ليبيعها في مكان لا يُسمَح فيه بوضع المتاع؛ يكون مسؤولاً أيضًا عن الضرر الذي يلحق بالمارة بسبب بضاعته.
أمثلة كثيرة جدًّا نص عليها الفقهاء، تتلخص في أنَّ مَن استعمل الطريق العام بغير الوجه المأذون به شرعًا يكون متعديًا، وضامنًا للضرر، وآثمًا في نفس الوقت.
ونأتي إلى تطبيق هذه القاعدة على وسائل النقل الحديثة:
إن الأجهزة المختصة والخبيرة بشروط السلامة على الطرق تقرر ما يلي:
1. لا بد من شروطٍ معيَّنةٍ في الذي يقود مركبةً على الطريق العام.
2. لا بد من توفُّرِ مواصفاتٍ معينةٍ في المركبة التي تسير على الطريق العام.
3. لا بد من مراعاة إرشادات خاصة في استعمال الطريق العام من حيث السرعة، ومراعاة قواعد المرور.
هذه الشروط لم توضع من باب التسلط على الرقاب، والحد من حريات الآخرين، بل هي في الحقيقة شروط اتفق عليها الخبراء، ويرون أنها ضروريةٌ لسلامة مَن يقود مركبةً على الطريق العام.
وبناء عليه من خالفها فهو آثم: سواء ألحق الضرر بنفسه أو غيره، أم لم يُلحق؛ لأن مجرد تعريض النفس أو الغير للخطر هو إثم يحاسب عليه العبد أمام الله، ويجب أن يحاسِبَه عليه ولاةُ الأمور.
وبمثال بسيط: إن الذي لا يتقيد بقواعد السلامة على الطريق العام؛ لو قَتل نفسه أو غيرَه بسببِ ذلك فهو منتحرٌ أو قاتل، وكلنا يعلم إثم المنتحر والقاتل، وهذا الكلام أصدرتُ به فتوى منذ سنوات، أصدرتها تبرئةً لذمتي أمام الله تعالى، وبيانًا للحكم الشرعي الذي كلَّفنا الله تعالى ببيانه، وما نقوله اليوم هو تذكير بسبب الفاجعة التي ما زال هذا المجتمع يئن من وطئتها، رحم الله الذين لقوا حتفهم فيها، وندعو الله بالشفاء للمصابين، وندعوه عز وجل أن يُلهم الأهل الصبر، ويُنزلَ على قلوبهم السكينة.
وهذا الذي نقول أخذًا من قواعد ديننا الحنيف، هو الذي تترتب عليه سلامة المجتمع، ويسمِّي الأشياء بأسمائها الصحيحة، ويُرتِّبُ عليها الأحكام الشرعية التي تحفظ حقوق الله وحقوق العباد.
أما الذين إذا وقعت الفاجعة قالوا: هذا قضاء وقدر. يريدون بذلك إعفاء المتَسَبِّبِين من المسؤولية؛ فإنهم يخلطون بين المفاهيم، ولا يُحَكِّمُون شريعة الله في الموضوع؛ لأننا جميعًا نعتقد أنه لن تموت نفس إلا بعد أن تستكمل أجلها، فهل يعني هذا إعفاء القاتل من جريمته!
إن الذي قتل لم يقتل لأنه اطلع على قدر الله وأراد تنفيذه، بل فعل ذلك لأشياء في نفسه، مِن أهونها عدم الحذر في استعمال السلاح، وهو ما يُسمَّى: (قَتْلَ الخطأ). والشريعة الإسلامية ألزمت من قَتَلَ خطأً بالدية والكفارة (صوم شهرين متتابعين)، أي أنه أثم؛ لأنه لم يراعِ الحذر التام، ومثل هذا يقال في الذي لم يتقيد بقواعد السلامة المرورية: إنَّه لم يطَّلِع على الغيب، بل أطاع نزوةً في نفسه، فطاش مسرعًا، أو استجاب لأمرِ غيره فخاطر بروحه وأرواح الآخرين، ونسي أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إن الذي علَّمنا الإيمان بالقدر هو الذي أمرنا باستيفاء الحقوق ومعاقبة المخالِفين، ومجتمعنا المؤمن الطيب يُفَرِّقُ بين ما يقع من حوادثَ لا يدَ لأحدٍ فيها، والحوادثِ التي فيها تسبُّبٌ وإهمالٌ وطيشٌ وعدمُ اكتراث بأرواح الآخرين، ويجب أن توضع الأمور في مواضعها، وأن يشعر كلُّ مواطن أنه مسؤول أمام الله والقانون عن حفظ روحه وأرواح الآخرين، وأنَّه إن أفلت من عقاب الناس لن يُفلِتَ مِن عِقاب رب العالمين، فقد قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء/29. والله أعلم.