الموضوع : حكم الذكر جماعة ورفع الصوت به

رقم الفتوى : 3627

التاريخ : 18-07-2021

السؤال :

ما حكم الذكر بورد خاص بشكل جماعي وبصوت جهوري في المساجد عقب الصلوات (قراءة جهرية جماعية)؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

حثّ الإسلام على ذكر الله تعالى، ورغب فيه، ورتب عليه أجراً عظيماً، قال الله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى) رواه الترمذي، وأما الغافلون فقد ذمهم الله تعالى ونهى عن الغفلة، قال الله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

وورد في القرآن الكريم الحثّ على الذكر مطلقاً من غير تخصيص بصفة معينة أو حال خاصّة أو ألفاظ معينة، بل طُلب الذكر من المكلف مطلقاً من غير تقييد، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، فجَعْلُ الذكر المشروع مخصوصاً بصفة خاصة أو حال معينة أو بشرط صيغة معينة هو تقييد للمطلق من غير دليل، وهو تخصيص لم يرد في الكتاب أو السنة، والواجب أن يبقى الذكر المشروع على إطلاقه بدون تقييد، وعلى عمومه في كل حال ووقت وزمان وهيئة وبأي لفظ وصيغة.

والأوراد الخاصة التي وردت عن بعض الصحابة الكرام أو السلف والتابعين أو العلماء الراسخين أو الأولياء الصالحين من أصحاب التوجه إلى الله تعالى والعلم به يجوز الذكر بها؛ لأن ألفاظها تدور على الذكر والتسبيح والتحميد وتشتمل على آيات القرآن الكريم وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك مشروع كما لا يخفى، إضافة إلى أن الله قد يخص بعض عباده وأوليائه بذكر خاص للحديث الشريف: (... أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) أخرجه ابن أبي شيبة.

واجتماع الناس للذكر في المساجد عقب الصلوات بصورة جماعية من غير تشويش مشروع في الدين، لما ذكرناه من عدم تقييد الذكر بقيود معينة، ولما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ) متفق عليه، قال النووي في [شرحه على صحيح مسلم 5/ 84]: "هذا دليل لما قاله بعض السلف أنه يستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة وممن استحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهري"، وللحديث القدسي: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) رواه البخاري.

وجاء في [حاشية الطحطاوي/ ص318]: "وأجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الله تعالى جماعة في المساجد وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوش جهرهم بالذكر على نائم أو مصلّ أو قارئ قرآن"، وجاء في [رد المحتار 6/ 398]: "وقد شبه الإمام الغزالي ذكر الإنسان وحده وذكر الجماعة بأذان المنفرد، وأذان الجماعة قال: فكما أن أصوات المؤذنين جماعة تقطع جرم الهواء أكثر من صوت المؤذن الواحد كذلك ذكر الجماعة على قلب واحد أكثر تأثيراً في رفع الحجب الكثيفة من ذكر شخص واحد".

وأما الجهر بالذكر فيجوز شرعاً لعدم تقييد الذكر المشروع بأن يكون سراً، ومنه تكبير العيد، والتلبية في الحج والعمرة، ولما ورد في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم.

وأما قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، فهو أمر بخفض الصوت في محل مخصوص وهو محلّ الإنصات للقرآن، فإن رفع الصوت أثنائه خلاف الأدب، قال الإمام الطبري في [تفسيره 13/ 353]: "(واذكر) أيُّها المستمع المنصت للقرآن، إذا قرئ في صلاة أو خطبة (ربك في نفسك)... (ودون الجهر من القول)، يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار. يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار، ولكن في خفاء من القول"، وما ينقل عن ابن مسعود رضي الله عنه من النهي عن رفع الصوت بالذكر فلا يصحّ عنه، قال الإمام ابن حجر الهيتمي في [الفتاوى الفقهية الكبرى 1/ 177]: "وأما ما نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد، فلم يصح عنه بل لم يرد".

وعليه؛ فإن ذكر الله تعالى عبادة مطلقة مشروعة في الأصل بدون تقييد، فتصح على كل حال وهيئة وفي أي وقت، إلا ما نهي عنه، وتجوز فرادى وجماعات، سراً وجهراً، بأي لفظ وصيغة مشروعة، فلا مانع من الاجتماع على الذكر والدعاء عقب الصلوات في المساجد وغيرها، وهو من باب التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله تعالى به، حيث قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ونسأل الله صدق الوجهة وصلاح العمل. والله تعالى أعلم.