الموضوع : أيُّ الوالدين أحق بالطاعة عند التعارض

رقم الفتوى : 3608

التاريخ : 18-04-2021

السؤال :

تقع خلافات بين الوالدَين ينتج عنها توجيه أحدهما أوامر للأبناء قد تتعارض مع أوامر الآخر، ومن الأبناء مَن يكون بالغًا مكلَّفًا ومنهم دون ذلك، ما هو حكم الشريعة المطهرة في حق الأبناء: أيُّ الوالدين أحقُّ بالطاعة عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما وإرضاء الطرفين: أمرُ الوالد أم أمرُ الوالدة؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

يعتبر برّ الوالدين مفهوماً عاماً يشمل الإحسان إليهما، وفعل ما يسرّهما من الأمور الحسنة؛ قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24] فجمع بين طاعته وطاعة الوالدين.

ومن الإحسان إلى الوالدين طاعتهما في ما أمرا به بما لا يؤدي إلى أذيتهما، وكان في أمرهما مصلحة ظاهرة لهما، بحيث لو لم يطع الابن والديه –في غير معصية الله تعالى- لتأذى الوالد أو الوالدة إيذاءً ليس بالهين، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في عقوق الوالدين: "صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد" [فتح الباري لابن حجر 10/ 406].

فإذا أمر الوالدُ ابنَه بأمر وأمرتْ الوالدة بخلافه، فإن قدر الابنُ على أن يرضيهما ويتوافقا في أمر معين فهذا أحسن الأمور، فإن لم يقدر ينظر أيهما فيه مصلحة: فإن كان أمر الوالد فيه مصلحة وأمر الوالدة مجرد تعنت فتقدم طاعة الوالد على طاعة الوالدة، وإن كان أمر الوالدة فيه مصلحة وأمر الوالد مجرد تعنت فيقدّم أمر الوالدة.

وقريب مما ذكر يدل عليه ما سئل عنه العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله عن رجل له ولد عاقل بالغ رشيد، فأراد الولد التردد إلى الفقهاء لقراءة العلم واستعارة الكتب ونحو ذلك مما لا يستغني عنه طالب العلم، وكذا الخروج لقضاء حوائجه أو زيارة الصالحين أو نحو ذلك من القرب، فمنعه الوالد من ذلك وأمره بالقعود في البيت، وعلل ذلك بأنه يخشى عليه من صحبة الأشرار، والولد لا يرتاب في حاله أنه يكره ذلك ويحترز منه فهل للولد ذلك أم لا؟

فأجاب: إذا ثبت رشد الولد الذي هو صلاح الدين والمال معاً لم يكن للأب منعه من السعي فيما ينفعه ديناً أو دنيا، ولا عبرة بريبة يتخيلها الأب مع العلم بصلاح دين ولده وكمال عقله. نعم إن كان في البلد فجرة يأخذون مَنْ خَرَج مِن المرد إلى السوق مثلاً قهراً عليهم تأكد على الولد إذا كان كذلك أن لا يخرج حينئذ وحده لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الوقوع في مواطن التهم، فأمر الوالد له في هذه الحالة بعدم الخروج مع الخوف يعذر فيه، فلا يجوز للولد مخالفته إذا تأذى الوالد بذلك تأذياً ليس بالهين، ولم يضطر الولد للخروج... وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره، ومحله أيضاً حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل". [الفتاوى الفقهية الكبرى 2/ 229].

أما إن كان أمرُ الأب وأمرُ الأم للابن في كليهما مصلحةٌ له أو لم يدْر المصلحة في أيهما، فإنه يقدم أمر الوالدة؛ وذلك لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ).

قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه الحث على بر الأقارب، وأنَّ الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، قال العلماء وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك" [شرح النووي على مسلم 16/ 102].

وقال ملا علي القاري رحمه الله: "وحديث أبي هريرة يدل على أنَّ طاعةَ الأم مقدمة، وهو حجة على من خالفه... وقيل للحسن: ما بر الوالدين؟ قال: تبذل لهما ما ملكت وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية" [عمدة القاري شرح صحيح البخاري 22/ 83].

وبناءً على ذلك؛ يجب على الابن أن يطيع والديه فيما هو مصلحة، وأن يرضيهما ويجمع بينهما، فإن لم يمكن الجمع بينهما؛ فعليه أن يطيع والدته ما لم يكن أمرُها مجردَ تعنت، أو كان فيه قطيعة رحم أو إساءة أدب مع والده. والله تعالى أعلم.