الموضوع : حكم ما يفعله خوارج العصر من القتل بدعوى الردة

رقم الفتوى : 3050

التاريخ : 11-03-2015

السؤال :

ما حكم ما يفعله خوارج العصر من القتل بدعوى الردة؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

الإسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه للناس كافة خاتماً للشرائع السماوية متمماً به مكارم الأخلاق، مراعياً به فطرة الإنسان وكرامته، قاصداً إلى تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، والتي منها حفظ النفس البشرية.

وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من نطق بالشهادتين والتزم بأحكام الإسلام ظاهراً مسلماً، ولا يجوز الحكم بكفره، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) رواه البخاري، قال الإمام العيني في شرح صحيح البخاري: "فِيهِ أَن أُمُور النَّاس مَحْمُولَة على الظَّاهِر دون بَاطِنهَا، فَمن أظهر شَعَائِر الدّين أجريت عَلَيْهِ أَحْكَام أَهله مَا لم يظْهر مِنْهُ خلاف ذَلِك... وذلك لأن تلك الصفات الثلاثة التي هي الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبائح المسلمين لا تجتمع إلاّ في مسلم مقر بالتوحيد والنبوة، معترف بالرسالة المحمدية".

وقد اتفق علماء أهل السنة على أن من أظهر شعار الإسلام فهو مسلم ولا يجوز البحث عن باطنه ولا اتهامه بالكفر من غير موجب ظاهر، ولا التسرع بالحكم بالكفر على أحد من المسلمين إلا لمن أظهر كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان. ولا يجوز كذلك التكفير بالشبهة بل من عنده شبهة وجب أن يحاور ويناقش لتزول شبهته، فإن أصر على ذلك بعد البيان والتعريف من قبل العلماء المختصين فعندئذ يُرفع أمره للقاضي فهو المكلف بإصدار حكم التكفير أو الردة بعد التأكد من انتفاء جميع الموانع، وليس لأحد من آحاد الناس التجرؤ بإصدار أحكام الكفر على الناس لما في ذلك من استهانة بالشرع وتجرؤ على استحلال الدماء، ولذلك يقول الإمام المليباري: "تنبيه: ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظم خطره وغلبة عدم قصده، سيما من العوام، وما زال أئمتنا على ذلك قديماً وحديثاً" [فتح المعين]، وقال الإمام الدمياطي: "وليحذر ممن يبادر إلى التكفير في هذه المسائل...، فيخاف عليه أن يكفر؛ لأنه كفر مسلماً" [إعانة الطالبين].

وتكفير المسلم من أكبر الكبائر، فلا يجوز أن يكفر مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله إلا إذا ثبت جحوده لأمر معلوم من الدين بالضرورة، ولم يكن له شبهة، وأصر على جحوده، مع علمه وقصده، ومن الواجب على المسلم أن يحسن الظن بالمسلمين، فلا يحكم بكفر أحد منهم، لأن الأصل فيهم الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ -أي عاد عليه-" [رواه مسلم]. قال الإمام النووي في شرحه للحديث: "والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم".

وقال ابن دقيق العيد: "وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحداً من المسلمين، وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم. ... والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها" [إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام]. 

وقد قال الغزالي رحمه الله تعالى : "الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم"، [الاقتصاد في الاعتقاد].

ولذا فإن الحكم على أحد من المسلمين بالكفر والردة، لا يكون إلا بشروط لا تتحقق إلا بصعوبة بالغة، ولا تنطبق إلا على أشخاص قلائل، ولا يكون التكفير إلا لدى هيئات معتبرة شرعاً، وهي القاضي وله أعوانه الذين يتحققون مما ينسب إلى الشخص، ويتأكدون من تحقق شروط الحكم وانتفاء موانعه، ويغلبون عدم التكفير في الحكم، ويسلكون في سبيل عدم التكفير كل السبل. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ"[رواه البخاري]. 

ولذا فإن ما يفعله هؤلاء الجهلة من قتل المسلمين بحجة الردة والكفر لهو أمر مخالف لتعاليم الإسلام، ولم يفعله إلا الخوارج، حيث كَفَّروا من ارتكب كبيرة من المسلمين. وهؤلاء حكموا بكفر وردة كل من خالفهم ليستبيحوا دمه، وليجدوا مسوغاً للإغراق في القتل وسفك الدماء المحرمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" [رواه البخاري].  والله تعالى أعلم.