الموضوع : قواعد التفسير الصحيح هي المأثور واللغة والسياق ومقاصد القرآن

رقم الفتوى : 2827

التاريخ : 30-07-2013

السؤال :

ما تفسير قوله تعالى -على لسان سليمان عليه السلام-: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) ص/33. وهل صحيح أن سليمان عليه السلام قطع أرجل الخيل وأعناقها؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) ص/30 - 33. جاءت قصة سليمان في سورة (ص) بعد الحديث عن داود عليه السلام وما منَّ الله به عليه من النِّعم، فيمضي السياق يعرض نعمة أخرى على داود في عقبه وولده سليمان.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى تفسير الآية بناء على قصة يرويها أهل الكتاب في كتبهم، وملخصها أن سليمان عليه السلام عُرضت عليه الخيل وبدأ يتفقدها، وكانت من الكثرة بحيث شغلته عن صلاة العصر حتى غربت الشمس وتوارت بالحجاب، وهذا معنى قوله: (فقال إني أحببتُ حبّ الخير عن ذِكْرِ رَبي حتى توارت بالحجاب) أي آثرتُ حبَّ الخيل على ذكْرِ ربي -أي على الصلاة- حتى توارت الشمس بالحجاب أي غربت، ثم أراد أن يكفِّر عما حدث منه من ذنب فقال: (رُدُّوها عليَّ)، أي رُدُّوا الخيل عليَّ. فلما رَدُّوها بدأ يقطع سوقها وأعناقها.

وذهب بعض الأئمة إلى تأويل الآيات على غير هذا النحو، حيث قالوا: لما عرضت الصافنات الجياد على سليمان عليه السلام وقت العشي، حمد الله على ما أنعم به عليه منها، وقال: (إني أحببتُ حب الخير عن ذِكْرِ ربي) أي: إني أحببتُ الخيل حباً كثيراً وآثرتُ حبها، وحبي لها عن ذِكْر ربي ومن أجل ذِكْر ربي [من معاني حرف الجر (عن): التعليل، كما في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) التوبة/114؛ أي لأجل وعد وعده إياه. انظر: "مغني اللبيب" (1/ 237)].

فكأنه ذاكرٌ لربه عندما يحب الخيل، فحبه لها ذكرٌ منه لله، إذ يحمد الله ويشكره على إنعامه عليه بها، فكلما يراها يشكر ربه ويذكره، كما أنّ إعداده لها وإشرافه عليها صورةٌ من صور عبادتِه وذِكْرِه لربه. وبقي ينظر إلى الخيل السابحة في الميدان، حتى توارت واختفت وراء شيء كان يحجبها عنه، كأنْ يكون جبلاً أو تلاًّ. ولما توارت وغابت عن ناظريه قال: (رُدّوها عليَّ) أي أعيدوها وأرجعوها إليّ، فأعادوها له، ولما رآها أمامه صار يمسح عليها: (فطفق مسحاً بالسُّوقِ والأعناق)، والمعنى أن سليمان صار يمسح سيقان الخيل وأعناقها؛ ملاعبةً منه لها وإظهاراً لاهتمامه بها. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي الله عنه حيث قال: "جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها". رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 196) وقال: "وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية".

وهذا هو الراجح في تفسير الآيات لما يلي:

أولاً: عدم استناد الرأي الأول على آية مُحْكَمة أو سُنَّة ثابتة، بل هو لا يعدو أن يكون من الإسرائيليات.

ثانياً: إنه أليق بالأنبياء، فلا يُعقل أن نبياً يمكن أن يحدث منه مثل هذا؛ فينشغل عن صلاة العصر إن كانت هناك صلاة عصر مفروضة عليهم.

ثالثاً: هذا القول يتفق مع قواعد التفسير الصحيح التي نص عليها العلماء، وهي الاعتماد على صحيح المأثور واللغة والسياق والمقاصد التي أُنزل من أجلها القرآن الكريم.

وقد توسع الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" في الرد على أصحاب القول الأول؛ فعندما تكلَّم عن عَوْد الضمير في قوله: (توارت) وقوله: (رُدُّوها) ردّ على الذين قالوا بعوده على الشمس، ورجَّح أنه عائد على الخيل، واستدلّ بالأدلة التالية:

"أولاً: الصافنات مذكورة تصريحاً، والشمس غير مذكورة. وعود الضمير إلى المذكور أوْلى. وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد.

ثانياً: لو حكمنا بعوْد الضمير في قوله: (حتى توارت) إلى الشمس، وحملنا اللفظ على أنه ترك صلاة العصر كان هذا منافياً لقوله: (أحببتُ حبَّ الخير عن ذِكْرِ ربي) فإن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله لما نسي الصلاة ولما ترك ذِكْرَ الله" "تفسير الرازي" (9/ 390).

وقال أيضاً في الرَّد على من فسَّر مسح السوق والأعناق بقطعها:

"أولاً: القائلون بهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة، فأوَّلها: ترك الصلاة. وثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدُّنيا حتى نسي الصلاة. ثم إنه بعد الإتيان بهذه الأفعال لم يشتغل بالتوبة والإنابة، وإنما أضاف إليها تقطيع سوق الخيل وأعناقها!

ثانياً: هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله: (وقالوا ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا قَبْلَ يومِ الحِسابِ) ص/17، وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحدّ قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: اصبر يا محمد على سفاهتهم واذكر عبدنا داود. وذَكَرَ قصة داود ثم ذَكَرَ عقيبها قصة سليمان. وكان التقدير أنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان. وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة، والأخلاق الحميدة، وصبر على طاعة الله، وأعرض عن الشهوات واللّذات، أما لو كان المقصود من قصة سليمان في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة؛ لم يكن ذِكْر هذه القصة لائقاً بهذا الموضع" "تفسير الرازي" (9/ 391). والله أعلم.