الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
أمر الله تعالى المسلمين بالتمسّك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) آل عمران/103، ونهى عن الفُرقة والتنازع لما يترتب على ذلك من الخذلان وذهاب القوة، قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال/46.
ومما نهى الله تعالى المسلمين عنه: التنازع والافتراق في الدين؛ لأن ذلك يُصيِّر الأمة شيعًا وأحزابًا متفرقين، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) الأنعام/159، وقال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الروم/32، وهذا التنازع المذموم غير الخلاف المعتبر الذي يقع بين العلماء والمجتهدين في مسائل الفقه؛ فهذا لا يفسد للودِّ قضية.
وما زال السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ الإسلامي كله متمسكين بمنهج أهل السنة والجماعة، لم يحد منهم إلا فرق عقائدية كثيرة الأسماء، ولكنها قليلة الأعداد، لم تخرج من الملة، ولكنها مالت نحو الغلو أو الهوى في تفسير الإسلام وتناول قضاياه.
وقد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يَعْنِي الأَهْوَاءَ- كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) رواه أحمد والحاكم وابن ماجه وغيرهم، وفي لفظ عند البيهقي وغيره: (كلها في النار إلا السواد الأعظم)، وفي لفظ آخر: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
فقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار) لا يعني تكفيرها، بدليل وصفه لها بأنها (من أمته)، وإنما دليل على خطئها ومخالفتها الإسلام الوسطي المعتدل؛ فلا يجوز تكفيرها ما لم تناقض عقائد الإسلام القطعية، بل تُحاوَر بالعلم والعقل، وتُعامَل بالحسنى التي أمر الله بها.
كما أن كثرة عدد تلك الفرق لا يعني أغلبيتها في الأمة، بل الأغلبية -وهم السواد الأعظم من العلماء وعامة المسلمين- متمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أصول الاعتقاد والعمل.
قال بدر الدين العيني مبينًا المراد بـ(الجماعة) في لفظ الحديث: "الجماعة التي أمر الشارع بلزومها هي جماعة العلماء؛ لأن الله عزّ وجل جعلهم حجة على خلقه، وإليهم تفزع العامة في دينها، وهم تبع لها، وهم المعنيون بقوله: (إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة)" "عمدة القاري" (35/ 147).
وأصحاب المذاهب المعتبرة في أصول الدين هم مَن خلت أقوالهم من مختلف صنوف البدع: كالقول بـ(قِدَم العالم)، ونفي المعاد الجسماني، والجَبْر وهو نفي اختيار العباد فيما يفعلون، والقَدَر وهو نفي علم الله تعالى بما يقع من حوادث، والقول بأن العباد يخلقون أفعالهم، والرَّفْض وهو بغض أبي بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم، والنَّصْب وهو بغض علي رضي الله عنه وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والتجسيم والتشبيه ووصف الله تعالى بصفات المخلوقين ولوازم ذلك من المحالات والنقائص، والتعطيل وهو نفي صفات الله تعالى مما اتفق أهل السنة على وجوب إثباتها لله تعالى، والخروج وهو مفارقة جماعة المسلمين وتكفيرهم وقتلهم. قال ابن نجيم رحمه الله: "أصول الهوى ستةٌ: الجبر والقدر، والرفض والخروج، والتشبيه والتعطيل" "البحر الرائق" (18/ 307).
وأصحاب المذاهب المعتبرة في فروع الدين هم الذين يلتزمون بأصول الاجتهاد والاستدلال المستند إلى الأدلة المعتبرة؛ كالكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، وتخلو مذاهبهم من شذوذ ومناقضة للنصوص الشرعية؛ كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأتباعهم من العلماء المشهود لهم بالعلم والتمسك بنصوص الكتاب والسنة وما أجمع عليه العلماء فهمًا وعملاً.
وبناء على ما سبق، فقد تبيّنت سبيل الله تعالى ورسوله والمؤمنين عن سائر السبل، بالاستقامة والاعتدال والوسطية، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام/153.
وقد بيّن الملا علي القاري رحمه الله معالم وسطية الفرقة الناجية واعتدالها بقوله: "سبيل الله وسط، ليس فيه تفريط ولا إفراط، بل فيه التوحيد والاستقامة ومراعاة الجانبين في الجادة، وسبل أهل البدع مائلة إلى الجوانب، وفيها تقصير وغلوٌّ وميل وانحراف وتعدد واختلاف" "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 50). والله أعلم.