الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الحج ركن من أركان الإسلام الذي جاء لهدم الوثنية ونشر العلم والخير بين الناس، ولا يُعقل أن دِينًا جاء لمحاربة الوثنية يحتوي في بعض أركانه على مظاهر للوثنية!
ولذلك فإن ما قد يلتبس على بعض الناس من وجود وثنية في أعمال الحج ما هو إلا نتيجة سوء فهم للشريعة الإسلامية، وعدم تحديد لمعنى مصطلح (الوثنية)، حيث تتفاوت فيه الأفهام والأذهان، وإذا تم الاتفاق على المعنى انحل الإشكال بإذن الله.
فالوثنية -في شريعتنا-: هي اعتقادُ النفعِ والضرِّ وأيٍّ من خصائص الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى. أو التوجه بأنواع العبادات والشعائر الدينية تعظيمًا وتقربًا لغيره عز وجل.
فيتعلق قلب العبد بقوى متعددة، يرى فيها النجاة والخلاص والفرج دون الله سبحانه؛ فحينئذ تكون الوثنية، ويصبح الإنسان نهبًا لكل ما هو دون الله عز وجل، في حين أن الإسلام يدعوه إلى توجيه الوجه لإله واحد هو رب السماوات والأرض وما بينهما، وخالق كل شيء ومليكه، كما قال إمام الأنبياء إبراهيم عليه السلام: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام/80.
ولا شك أن كل عبادة لا بد أن ترتبط بمكان أو زمان، فإذا جاء في الشريعة الإسلامية تعظيم خاص لمكان العبادة كالمساجد أو مشاعر الحج، أو تعظيم لزمانها كرمضان وعشر ذي الحجة ونحوها؛ فمن الخلل في الفهم عدُّ تلك الأماكن والأزمنة آلهة دون الله تعالى، واعتبار ذلك رجوعًا عن مبادئ التوحيد إلى مهاوي الوثنية الجاهلية، فالمعبود المقصود بالخوف والرجاء والتعظيم واعتقاد التأثير المطلق هو الله عز وجل، وما سوى ذلك من متعلقات حالية أو مكانية أو زمانية إنما هي ظروف لا تُقصد لنفسها، ولا ينسب أحد إليها شيئًا من خصائص الألوهية المطلقة، والناس يتوجهون بالعبادة فيها وعندها وليس إليها، وفرق كبير دقيق بين الحالين.
ويمكن توضيح ذلك بالمثال العملي ليتضح المقال:
هل يُفهم من احترام المواطنين في أي بلد من البلدان لأي نصب تذكاري بنشر صوره ووضع علامته في الأوراق الرسمية ونحو ذلك بأن هذا عبادة للنصب، وأنه وثنية جاهلية؟! هل يطرأ ذلك في أذهان الناس اليوم، أم ثمة فرق دقيق يستشعر به الجميع بين الأديان الوثنية وبين تعظيم أماكن ومشاعر معينة، سواء دينية أم وطنية وقومية. هذا مع التحفظ الشرعي على الصور والتماثيل.
وهكذا نقول أيضًا إن الحج بالمعنى العام هو التوجه إلى الله بالدعاء والذِّكر والذبح، كلها أنواع تقرُّبٍ وتعبُّدٍ لا تُصرَف إلا لله سبحانه، وإنما الأماكن والأزمنة ظروف وأوعية تُقام فيها تلك العبادات، وتُعظَّم لتعظيم الله تعالى لها، وليس لاشتمالها على شيء من صفات الربوبية.
فالطواف والسعي عبادة بدنية يُتقرَّب بها إلى الله، كلها ذكر ودعاء، والكعبة أو الصفا والمروة إنما هي أماكن تُمارس فيها تلك العبادة، ولا يعرض لقلب أي حاج أو معتمر أن لهذه الأماكن تأثيرًا خاصًّا في هذا الكون أو أدنى قدرة على إحداث النفع والضر.
وكذلك الشأن عند رمي الجمرات، يستشعر الحاج مواقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يُعارض الشيطان ويخالف وساوسه، ويرجمه بالحجارة، ويُقبل على امتثال أمر ربه، ويُنفِّذ ما أوحاه إليه في رؤياه من ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام؛ فيكون ذلك الموقف دافعًا للمسلم في الإعراض عن الباطل وأهله، ومحفزًا له في الإقبال على عبادة الله تعالى، فتجد الحاج عند رمي كل حصاة يُكبِّر الله تعالى، ولا يعتقد لمكان الجمرات شيئًا من الخصائص المتعلقة بالألوهية والربوبية، فأي وثنية في هذا الفعل حينئذ؟!
وتقبيل الحجر الأسود عبادة؛ حيث يُقبِّله المسلم ويُعظِّمه تقربًا إلى الله تعالى، واتباعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فلذا شُرع التكبير والتهليل عند استلامه لنفي أي شبهة تعظيم لذات الحجر. عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّهُ جاءَ إلى الحَجَرِ الأسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ" متفق عليه.
وقد قال العلماء في ذلك: "إنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية؛ فأراد أن يُعلِّم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان" "فتح الباري" (3/ 462).
ويقول القاضي عياض: "فيه أن تقبيله الحجر ليس عبادة له، بل لله تعالى؛ بامتثال أمره فيه، كأمره بسجود الملائكة لآدم، وشُرع مع ذلك التكبير للناس إظهارًا أْن ذلك الفعل تذللاً له لا لغيره، وأن التحسين والتقبيح إنما هو من قبل الشرع لا من قبل العقل" "إكمال المعلم" (4/ 180).
والواجب على المسلم دائماً الإعراض عن الشبهات التي يُثيرها أعداء الإسلام لتشكيك المسلمين بدينهم ولصرف الناس عنه، وأنْ يعلمَ أن الإسلام -بكل أحكامه- هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده؛ لما فيه من صلاح لجميع شؤون حياتهم، يقول تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة/3.
هذا ونُنبِّه إلى أن المشروع هو تقبيل الحجر الأسود واستلام الركن اليماني، أما التبرك بالأركان الأخرى أو بجدار الكعبة، أو التبرك بالعمود المنصوب على جبل الرحمة في عرفات؛ فهو من أفعال العوام التي لم يرد استحبابها في السنة الصحيحة، بل نص الفقهاء على خطأ من يقع فيها. يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "ولا يُقبِّل الركنين الشاميين ولا يستلمهما؛ للاتباع" "تحفة المحتاج" (4/ 86). أما التزام الملتَزَم لأجل الدعاء واللجوء إلى الله تعالى؛ فلا بأس به. والله أعلم.