الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الأولى بالبحث الموضوعي دائمًا العناية بالمقاصد والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني، فالعبرة بالمسمى وليس بالاسم الذي قد تتفاوت فيه اللغات والأعراف، ويتغير مع تغير الزمان والمكان، فإذا اتضحت أصول المسائل؛ لم يقع الاختلاف بعد ذلك على الأسماء، وكان الخلاف فيها لفظيًا فقط.
ولهذا نقول: إن المتأمل في أحداث السيرة النبوية وما تخللها من معارك وغزوات وحوادث قتالية يتبين له أنها جميعها كانت معارك دفاعية عن الحرمات أولاً، ودفاعية عن الدعوة الإسلامية التي تعرضت لمحاولات وأد وطمس من جهات كثيرة، سواء من مشركي العرب أو يهود المدينة أو نصارى الروم ونحوهم.
وقد قام كثير من الباحثين المعاصرين بإجراء دراسات استقرائية تحليلية للأسباب والدوافع التي كانت وراء نشوء جميع العمليات القتالية في العهد النبوي؛ فتبين أنها كانت دفاعية بالمعنى الواسع الذي يشمل الدفاع عن الدعوة الإسلامية في وجه من يحاربها ويحاول منعها، وليس في شيء من تلك المعارك أهداف توسعية لمجرد بسط نفوذ الدولة الإسلامية على حساب الدول والشعوب الأخرى، من بداية معركة بدر التي وقعت لاسترداد الأموال التي نهبتها قريش ممن هاجر من مكة إلى المدينة، إلى فتح مكة الذي وقع نتيجة غدر كفار قريش ونقضهم الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم واعتدائهم على حلفائه.
ومن أراد التوسع في استعراض جميع تلك المعارك بقراءة تحليلية تسلط الضوء على هذه القضية فيمكنه الإفادة من بعض الكتابات والأبحاث العلمية المعاصرة، وقد توصل إلى هذه النتيجة بعض العلماء السابقين وكثير من المعاصرين.
وبهذا يتبين أن تسمية الجهاد في تلك المرحلة أنه "غزو" أو "فتح" لا يغير طبيعة الأهداف الدفاعية التي تثبتها كتب السيرة النبوية لجميع المعارك التي وقعت في العهد النبوي، وأن تسميتها بأنها "غزوات" لا ينبغي فهمه بالمعنى الاستعماري التوسعي، بل هي في إطار المعنى اللغوي الواسع الذي يطلق اسم "غزوة" على كل معركة، مهما كانت دوافعها، مأخوذة من "غَزَاهُ غزوًا" إذا أراده وطلبه. قال الراغب الأصفهاني في (غزا العدو): "إذا خرج إلى محاربتهم" انظر: "تاج العروس شرح القاموس" (39/ 158).
وهذا مطلق يشمل كل خروج، سواء كان دفاعيًا أم هجوميًا، وبدليل إطلاقها في السيرة النبوية على كلٍّ من موقعتي (أحد) و(الخندق)، اللتين لا يخفى كونهما معارك دفاعية من جهة المسلمين ضد المعتدين الذين حاولوا القضاء على المدينة المنورة ومن فيها. والله أعلم.