الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
تمتاز الحياة العسكرية -حياة المجاهدين- بأنها تجعل بين المشاركين فيها نوعاً من التآلف والتعاطف والتعاون؛ لا تجده في قطاعات أخرى في المجتمع، والسر في ذلك -والله أعلم- قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف/٤.
ثم إن المجاهد يتصدى للمخاطر بمقتضى طبيعة واجبه، وأقرب الناس إليه في الأزمات هو زميله والذي تتكون بينهم هذه المحبة التي تثمر تعاوناً على البر والتقوى، وهذا ما عرفته تماماً من خلال ما شرفني به ربي عز وجل من عمل في القوات المسلحة الأردنية (الجيش المصطفوي).
ومن ذلك أنه كان إذا استشهد أو مات يقوم أحد زملائه يوم قبض الرواتب فيبسط منديلاً ويقول: (أبناء أخيكم يا شباب)! فتنهال التبرعات تأسياً بقول الشاعر:
ليس العطاء في الكثير سماحة حتى تجود وما لديك قليل
وأرادت القيادة الحكيمة أن تجعل الأمر منظماً وميسراً وأكثر جدوى، فقررت أن يُقتطَع من راتب كل منتسب للقوات المسلحة مبلغ كل شهر، ومن مجموع هذه الاقتطاعات تُعطى أسرة المتوفى مبلغاً من المال (ألفي دينار)، وسمي تأميناً. واعترضتُ على هذه التسمية؛ لأن هذا ليس كعقود التأمين المعروفة المحرمة، ولم أعترض على المضمون؛ لأن ولي الأمر له أن ينقص من الرواتب كلها أو بعضها حسب الحاجة، ولا يزال هذا المشروع المبارك معمولاً به، لا يعترض عليه أحد من الناحية الفقهية ولا الإدارية.
ثم سعت القيادة الهاشمية في تأمين مسكن للذين أفنوا شبابهم في القوات المسلحة فكان مشروع الإسكان للضباط والأفراد، وأحجمتُ أنا وإخواني الأئمة عن الأخذ من هذا المشروع؛ لأنه مشروط بتأمين على الحياة لدى شركة معينة، ومضت سنوات ونحن لا نستفيد من هذا المشروع، بعداً عن الحرام، سيما ونحن قدوة لغيرنا.
حتى جاءت الفرصة المناسبة فقد زارنا جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه، فسألنا عن أحوالنا، فشكوت إليه أمر الإسكان، وأثرت ما أعرفه فيه من حرص على أفراد القوات المسلحة، سيما النخبة منهم، فقلت له: إن التأمين المطلوب للإسكان لا يشمل الذين يستشهدون في العمليات العسكرية!! فانفعل رحمه الله، وقال: كيف ذلك؟! هؤلاء أولى الناس بالرعاية. والتفتَ إلى قائد الجيش-الأمير زيد بن شاكر رحمه الله- وقال: ضعوا حلاًّ للموضوع بالتعاون ما بين مديرية الإفتاء ومديرية الإسكان العسكري.
وعملنا على ذلك، وكان الحل أن يقتطع من رواتب الضباط والأفراد ما يغطي قرض المتوفى من المستفيدين من القرض، وقبل الإقدام على هذا الحل، فكرت وسألت واستشرت من أثق بعلمهم، فالاستبداد بالرأي نوع من الإعجاب بالنفس، والإعجاب بالنفس مهلكة، وقد وافقني كل الذين شاورتهم على أن هذا اقتطاع من العطاء الممنوح للقوات المسلحة، وهو جائز ومفوض إلى ولي الأمر، واستفاد من هذا المشروع الكثيرون من الذين لا يقحمون أنفسهم بالحرام، ومعلوم أن قرض الإسكان قرض حسن، لكن يقتطع من عطاء المستفيد منه ديناران.
وبعد أن تقاعدتُ من القوات المسلحة سمعت بقرض يعطى للأفراد والضباط، يعطى الإنسان مثلاً (475) ديناراً، ويطالب بموجب عقد بخمسمئة دينار، بحجة أن هذا بدل أعمال كتابية، وتعود فائدتها إلى صندوق مكافآت نهاية الخدمة، ومرة ثالثة سعيت لدى قيادة الجيش المصطفوي لإنقاذ منتسبي القوات المسلحة من الربا، ووجدت قلوباً طيبة وآذاناً مؤمنة صاغية، وكان الحل أن يكون القرض حسناً؛ يطالب المقترض بمقدار ما أخذ بلا زيادة، ومن أجل دعم صندوق مكافآت نهاية الخدمة يقتطع من راتب (عطاء) المستفيد من هذا القرض ما يعادل (5%) من القرض الذي أخذه مثل ما يقتطع من راتبه لمصلحة صندوق دعم أسرة من يتوفى، ولمصلحة صندوق التكافل والتضامن للإسكان، ولمصلحة التأمين الصحي، وصندوق التقاعد، وغيرها من الاقتطاعات، وتم ذلك وتخلص العسكريون من إثم القرض بالطريقة السابقة.
وقد سألني بعض الإخوان عن هذا الأمر -وهذه الحساسية ضد الحرام والشبه يُحمد عليها من توفرت فيه- فأحببت أن أبين الوجه الفقهي لهذا الأمر، وهو يقوم على أمرين:
الأول: أن ما يأخذه العسكري ليس أجراً، بل هو منحة من ولي الأمر، كان يسمى في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم (عطاء)؛ أي هدية أو هبة أو عطية (انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى وغيره) وهذا يعني أنها ليست من باب الأجرة؛ فالأجرة تكون على عمل معين، يحدد بالمدة أو الوصف؛ كخياطة ثوب وفلاحة أرض أو سكنى بيت.
ولو كنا نعمل في القوات المسلحة لقاء أجرة لكنا (مرتزقة)؛ أي لا نريد أجراً من الله تعالى، بل مقداراً من المال نأخذه من الناس، ومعاذ الله أن نبيع أرواحنا بثمن بخس؛ فنحن بعناها لله بالجنة، وربح البيع إن شاء الله.
والذي يدلك على أن الراتب ليس أجراً أن الأجير يستطيع ترك العمل متى شاء، والعسكري لا.
ثم إن الأجير إذا نقص أجره بناء على رغبة المستأجر يستطيع على الأقل ترك العمل!! والعسكري عندما يقتطع من راتبه مخالفة عسكرية أو غيرها لا يستطيع ترك الخدمة، بل لو وقعت الدول في ضائقة -لا سمح الله- فقررت خفض الرواتب؛ لما جاز لموظف في الدولة أن يترك عمله كيلا تتعطل مصالح المسلمين، بل لو لم تكن رواتب لوجب على المسلمين وجوب كفاية أن ينتدب بعضهم لحماية البلاد من الداخل والخارج ولتسيير مصالح الأمة!! فأين هذا من أجير لدى مصنع، أو مزرعة، أو ورشة بناء؟!
إن من الإهانة للعسكري ولكل موظف أن تقول له: أنت أجير بالمعنى الفقهي. أما قول الصحابي لمعاوية رضي الله عنه: "السلام عليك أيه الأجير". فهو يقصد أنك تتصرف في مال الأمة وليس مالك الخاص! والمؤسف أن البعض لا يفرق بين العبارات الفقهية الدقيقة المحددة المعنى، وبين عبارات الوعظ التي تثير العاطفة إلى الخير؛ فنأخذ جانباً من المعنى المقصود.
وأما قول القانونيين: "إن الراتب حق مكتسب" فهذا صحيح، ومعناه: أن الموظف يستطيع أن يطالب به أمام القضاء، ويطالب بما انتقص منه بغير ما يقرره القانون، لكن هل يستطيع العسكري أن يطالب بما اقتطع من راتبه بقرار من قائد وحدته لأن هندامه غير حسن (سوء قيافة)؟ لا يستطيع؛ لأن القانون الذي منحه الراتب (العطاء) أجاز لقائد الوحدة أن يحسم منه مع الفرق الواضح بين حكم المحكمة وحكم قائد الوحدة من الناحية الشكلية والموضوعية.
أنا لا أنكر أن البعض دخل في سلك القوات المسلحة وغيرها طمعاً في الراتب، ولذلك استقال عندما سنحت له فرصة عمل في مكان آخر براتب أكثر، ولم يسأل عن الحكم الشرعي!!
لكن من خبر القوات المسلحة يعلم أن الكثيرين منهم مخلصون لله في عملهم يستعينون بالراتب على نفقة العيال، أما نية حماية الدين والأرض والعرض فلا نقاش فيها؛ فقد تولدت وترسخت للتوجيه الديني الذي تقوم بها مشكورة مديرية الإفتاء، وأين راتب العسكري -مهما كثر- من راتب بعض الموظفين في شركات القطاع الخاص، مع ملاحظة مدة العمل اليومي ونوعيته وظروفه؛ فالعسكري يعمل (24) ساعة كل (24) ساعة ما دام في الخدمة؛ فهو على رأس عمله أو تحت الطلب، شد الله عزائمهم وبارك لهم وبهم وفيهم وعوضهم؛ فإنه لا يعرف قدرهم إلا مؤمن، ولا يتجاهل مكانتهم إلا جاهل أو منافق. من الذي يعد للازمات؟ أين الذي يبذل روحه سخياً بها بلا من ولا غطرسة، لقد مررنا بأزمات كانت العقيدة الصادقة من وراء الوقفات الصادقة، ومن الظلم أن يقيس الإنسان الناس على نفسه، فيرى الكل مثله.
نعم تغيرت ظروف لكن البصير يرى أن الحقائق لم تتغير، وما كل الناس يرى بمنظار واحد، إن الذي تولى حرَّها غير الذي تولى قرَّها، ولا أزال أصر على أنه لا يجوز للعسكري أن يطلب إنهاء خدماته، وأن ذلك نوع من الفرار من الجهاد؛ فالجهاد نوعان: قتال ورباط. والقتال معروف، وما نحن فيه الآن رباط.
ومهما يكن من أمر؛ فإن التكييف الفقهي للقضايا المالية يراعى فيه الأصل والظواهر الثابتة.
الأمر الثاني: الذي يقوم عليه جواز القرض بصيغته الجديدة أن ولي الأمر له أن يزيد وأن ينقص من العطاء بحسب ما يراه، وهو مأمور شرعاً بالتقيد بالمصلحة، فالقاعدة الفقهية أن "تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة"، وقد بينا أن الراتب ليس أجراً بالمواصفات الفقهية للأجر، بل هو عطاء، وولي الأمر له أن يزيد وأن ينقص من العطاء بحسب ما يراه، وقد زيدت الرواتب عدة مرات بحسب الظروف وطبيعة العمل (العلاوات)، كما نقص العطاء كما بينا لمصالح متعددة ومنها نقص راتب من يأخذ قرضاً حسناً لتكون مجموع الاقتطاعات رافداً لصندوق مكافآت نهاية الخدمة، فما اقتطع من العسكري سيعود إليه كله أو بعضه أو أكثر منه عند انتهاء خدمته، وكما يجوز لولي الأمر أن يزيد وينقص عطاء الجميع يجوز له إنقاص عطاء البعض، وأن يفوض أحد عماله (قائد الوحدة مدير الدائرة المالية) بأن يقرر إنقاص راتب هذا البعض سواء كان ذلك عقوبة على مخالفة، أو رعاية لمصلحة عامة، كالاقتطاع للإسكان والتقاعد والتأمين على الحياة؟! والتأمين الصحي... إلخ.
ومعلوم أن خزينة الدولة تتكون من ضرائب ومن منح دولية، وكلاهما من المال العام الذي ينفق وفق المصلحة، ووفقاً لقانون يصدره ولي الأمر. فإذا كان وفق القانون فلا اعتراض عليه، والذي لا يروق له هذا التكييف الفقهي ولا إطلاق المصطلحات الشرعية على الواقع المعاصر عليه أن لا يقبض راتباً أثناء العمل، ولا راتباً تقاعدياً بعد انتهاء الخدمة؛ لأنه لا يسلم بصلاحية ولي الأمر في الحسم، فكيف يسلم بصلاحيته في الإعطاء؟! وهذا موضوع واسع اختلط فيه عند البعض المزاج الشخصي بالتأصيل الفقهي، وما كل ما يُعلَم يُقال.
وأما قول البعض: "كل قرض جر نفعاً فهو ربا" فهذا صحيح، لكن هذه القاعدة لا تنطبق على القرض الذي نتحدث عنه؛ لأن القاعدة معناها كل قرض جر نفعاً للمقرض فهو ربا. وهذا أيضاً ليس على إطلاقه؛ ففي الفقه الإسلامي عقد يسمى: (السفتجة)، وخلاصته: لو أراد إنسان أن يعطي ماله وديعة لإنسان؛ فإن الحكم الشرعي يقول: إذا هلك المال بلا تعد ولا تقصير في الحفظ فلا ضمان على المستودع، وخوفاً من هلاك المال يعطى صاحب المال ماله للقابض قرضاً حسناً، فلو هلك المال يكون مضمونا، والقابض (المستقرض) يستطيع أن يستفيد من المال بالتجارة أو غيرها، فهذا قرض جر نفعاً للمقرض فهل هو ربا؟! وقد فعله أبو موسى الأشعري مع عبدالله وعبيدالله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين (انظر: "السنن الكبرى" 6/ 110).
وفي موضوع القرض الذي نتحدث عنه: المقترض لم يتنازل عن شيء من المال صار في ملكه؛ فهو لا يملك الراتب إلا بعد قبضه، وقد اقتطع منه قبل أن يقبض، ومعروف أن الهبة لا تملك إلا بالقبض، ومجموع الاقتطاعات لا تعود إلى خزينة القوات المسلحة، بل إلى صندوق مكافآت نهاية الخدمة، فهل يجب التورع عن هذه المكافأة؟
بقي أن أقول: إن بعض الفتاوى المتساهلة في موضوع المعاملات المالية -وخاصة المصرفية- جعلت المسلمين يتحسسون من كل الفتاوى المتعلقة بهذا الموضوع، وخلاصة القول: إن بعض الفقهاء الذين لا نشك في نزاهتهم أوجدوا تخريجات فقهية لإدارة بيوت المال (البنوك) على الطريقة الإسلامية مثل: بيع المرابحة، وعقد المضاربة ضمن الشروط الشرعية المعتبرة التي يتميز بها البيع عن الربا.
لكن هذه البنوك اتخذت لجاناً للرقابة الشرعية؛ أي موظفين لديها ليراقبوا صحة العقود، وأنها وفق المعايير الشرعية الإسلامية، وبعض هؤلاء لا نشك في حرصه على دينه، وحرصه على تطبيق القواعد الشرعية، لكن مدراء البنوك الإسلامية نبت أكثرهم في بنوك ربوية لا يعرفون الفرق الدقيق بين البيع والربا؛ فأخذوا يتسترون بفتاوى اللجان الشرعية الواقعة تحت ضغوط اعتبارات الوظيفة، فرأينا عقوداً وتصرفات لا تنطبق عليها المعايير الشرعية، بحجة الاجتهاد والتيسير... إلخ، ووصل الأمر بالمواطن إلى أن يقول: ما هو الفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية؟! وبين التأمين العادي والتأمين الإسلامي؟! فهجموا على المؤسسات الربوية؛ لأن إجراءاتهم أيسر، ومعاملاتهم أكثر مرونة، ويتحمل بعض المسؤولية عن هذا المتساهلون في الفتاوى.
نحن لا نشك بأن المصارف الإسلامية كانت فرجاً للمسلمين، وأثبتت قدرة الفقه الإسلامي على معالجة المستجدات، ولا تزال هذه المصارف أفضل من المؤسسات المالية الربوية، وأقرب إلى أحكام الشريعة، لكن نقول: إن تساهل بعض الموظفين في الإجراءات، وتساهل بعض أفراد لجان الرقابة الشرعية لعدم كفاءتهم ولمراعاة خاطر المؤسسات التي يعملون لديها؛ كان كارثة على المؤسسات المالية الإسلامية، وهذا لا يعني التحسس من كل فكرة فقهية مؤصلة تحل مشكلة للناس، بل يجب على المسلم أن يسأل من يثق بعلمه، ولا حرج عليه إن أخذ بقوله، وأن يبتعد عن الأقوال المتساهلة بلا دليل.
إن الورع يقتضي ترك الشبهات وما لا تطمئن إليه النفس، بل ترك بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، وهذا يعمل به الإنسان في خاصة نفسه، أما الفتوى للناس فيراعى فيها قواعد الفقه وضوابطه، وليس المفتي هو الذي يقول عن كل شيء حرام أو حلال، بل هو صاحب البصيرة الفقهية الذي يميز بين الحرام والحلال، ويسمي الأشياء بأسمائها الشرعية.
وختاماً أقول: إن القرض الحسن العسكري كما هو عليه الآن جائز إن شاء الله، وقد اقترحت نظامه بعد التقاعد، وأنا خارج السلك الرسمي، وحاولت إبعاد زملائي العسكريين عن الربا، فإن أحسنت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وكما أشكر الذين وثقوا بفتواي؛ أشكر الذين أحجموا عن أخذ القرض ورعاً واحتياطاً؛ فالقرض ليس إلزامياً، بل لمن شاء، ومن لم يطمئن قلبه لما ذكرت لا يجوز له أن يأخذ هذا القرض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). والله يتولى الجميع بحفظه ورعايته.
مجلة (التذكرة)، العدد (385)، غرة محرم (1428هـ-2007م)، (ص 6-10).