هذا السؤال فيه مغالطة، فإن الماشطة كانت تأتي إلى البيت فتُمشِّط النساء، وغالباً ما تكون إحدى الجواري أو الخادمات اللواتي يخدمن عند المنعَّمات، وقد كانت الفتاة قبل الزواج تختصُّ بغرفة في البيت حتى لا يرى محارمها منها ما ينافي الحشمة والحياء، وتُسمَّى هذه الغرفة الخِدْر.
جاء في مختار القاموس المحيط في مادَّة "خِدر": "الخدر: سِتر يُمَدُّ للجارية في ناحية البيت" أي بيت الشعر، وهذا قبل أن يتَّخذ العرب بيوت الحجر والطين.
وقد جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا) متفق عليه، ولذا لا يُحتج بهذا المفهوم عن الماشطة، فلنرجع إلى القواعد العامَّة للشريعة الإسلاميَّة:
وفيها أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تُظهر وجهها وشعرها للمرأة المسلمة غير الفاسقة، فلا يجوز لها أن تظهر أكثر من الوجه والكفَّين لغير المسلمة بل عند الشافعيَّة قول معتمد: لا يجوز لها إظهار الوجه والكفين فضلاً عن غيرهما لغير المسلمة، وذلك لقوله تعالى في بيان من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها له: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) الأحزاب/55، والمراد بـ (نِِسَائِهِنَّ) النساء المؤمنات - انظر تفسير الجلالين وغيره - والفاسقة مُلحقَة بالكافرة في هذا الموضوع؛ لأنها لا تؤتمن على ذكر محاسن المرأة التي تراها للرجال الأجانب.
فلو فرضنا امرأةً مسلمة متديِّنة مؤتمنة لديها صالون تجميل لا يطَّلع عليه الرجال الأجانب ولا غيرهم ممن لا يجوز له الاطِّلاع على عورة المرأة جاز لها أن تذهب وليس ذلك من الورع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا خَرَقَ اللَّهُ عَنْهَا سِتْرَه). رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي، ورمز له السيوطي بأنه حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَضَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا ، فَقَدْ هَتَكَتْ سِتْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ) رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن عائشة، ورمز له السيوطي بالصحة.
وأما قول السائل: هل يجوز كشف العورة لهنّ؟ فالعورة تختلف باختلاف المقام:
فعَوْرة المرأة في الصلاة: ما عدا الوجه والكفين، فإذا ظهر غير الوجه والكفين بطلت الصلاة.
وعورة المرأة أمام الرجال الأجانب: كل بدنها حتى الوجه والكفين، والأجنبيّ ما سوى المحارم أي _ المحرَّمين _ عليها على التأبيد.
وعورتها أمام المحارم: سوى ما يبدو عند قيامها بأعمال البيت، على ألا يتجاوز ما بين السرّة والركبة.
وعورتها أمام المرأة المسلمة الصالحة: هو ما بين السرّة والركبة، وحيثما وُجدَت الفتنة حرُم النظر، والمراد بالفتنة: النظر الذي يثير الغريزة فذلك لا يحلُّ إلا بين الزوجين.
هذه هي الحدود التي لا يجوز تجاوزها إلا للضرورة، لكن كشف بعض ما ليس بعورة قد يكون مخالفاً للحياء - والحياء شعبة من الإيمان -، ومسقطاً للعدالة، لأنّ العدالة: عدم ارتكاب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر وعدم فعل ما يخلُّ بمروءة أمثاله، فالرجل مثلاً عورته ما بين السرّة والركبة، لكن لو غطَّى ما بين سرَّته وركبته وخرج إلى الأماكن العامَّة من غير ضرورة يكون متَبذِّلاً ساقط العدالة مشكوكاً في سلامة عقله، وهكذا المرأة لو كشفت أمام النساء المسلمات من بدنها ما ليس عورة، لكن كشفه ينافي الحياء تكون ساقطة العدالة.
بقي أن مواد التجميل يجب ألَّا تمنع وصول ماء الوضوء والطهارة إلى الجلد (البشرة)، فإن كانت تمنع وصول الماء وجبت إزالتها عند الوضوء والطهارة.
وهكذا يبدو أن المسألة ليست سهلة كما يظنّها بعض الناس، بل هي مقيَّدة بقيود شرعيّة قلَّ أن تتوفَّر والمخرج من ذلك أحد أمرين:
إما الترفُّع عن العادات الأجنبيّة التي فرضناها على أنفسنا، أو أن يُزاد في أجرة الماشطة والمزيِّنة ويُؤتَى بها إلى بيت المرأة ليكون التزيُّن ضمن الضوابط الشرعية في المنزل، ولا ننسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ) رواه مسلم، فليلاحِظ هذا الرجل الصالح والمرأة الصالحة، ومثل هذا يقال في ذهاب المرأة إلى الخيَّاطة وخلعها ملابسها للقياس.
"فتاوى الشيخ نوح علي سلمان" (فتاوى الحياة العامّة / فتوى رقم/61)