بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أرجو الله لي ولك سعادة الدارين وكفاية همهما، وأن يحفظنا فيما غبنا عنه وفيما حضرناه.
ثم إنه قد وصلتني رسالتك الكريمة التي تتضمن أسئلة يطرحها غير المسلمين، وعادتهم أن يناقشوا في الفروع، وأن لا يتكلموا في الأصول، والواجب أن نُبين لهم الأدلة التي تُثبت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن الكريم كلام الله الذي عجزت العرب وغيرهم عن الإتيان بمثله، فإذا ثبت هذا كان لا بد من التسليم بما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان يجب عليه أن يُسلِّم بما جاءه من عند الله، فهو الذي يعلم كل شيء ونحن لم نُؤتَ من العلم إلا قليلاً. ومع ذلك فالإجابة على الأسئلة سهل وميسور إن شاء الله تعالى. ونلاحظ أن هذه أسئلة تتعلق كلها بالنساء، ولذا لا بدَّ من بيان نظر الإسلام إلى موضوع المرأة والرجل، وفيما يلي إيجاز ذلك:
إنّ الله تعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى لحكمة يعلمها، وبعضها لنا ظاهر، فاستمرار وجود البشر على وجه الأرض لا بد له من وجود الذكر والأنثى، فلا يُغني الذكر عن الأنثى، ولا الأنثى عن الذكر، واختلاف طبيعة المرأة عن الرجل أمرٌ لا شكّ فيه ولا جدال، ولو كانا صورتين متطابقتين من كل وجهٍ لَخَلق الله أحدهما ولم يخلق الآخر، ومع ذلك هناك قدر كبير من الصفات الظاهرة والباطنة مشترك بينهما. أي أنّ بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة مقدار مشترك، وهناك خواص في الرجل ليست في المرأة، وخواص في المرأة ليست في الرجل، فأما المقدار المشترك بينهما فقد شرع الله لهما فيه أحكاماً متساوية كالكرامة الإنسانية، ووجوب المحافظة على الروح، والمال، والعقل، والعِرض، وحقّ كل منهما في أن يكون له مال خاص وشخصيّة خاصة، وهذا هو المجال الأوسع في الأحكام الشرعية.
وهناك نطاق ضيّق امتاز به الرجل على المرأة، كقوة البدن، والقدرة على تحمّل المشاق، وضبط الأعصاب والعواطف، وفي هذا المجال فضل الرجل على المرأة ببعض الأحكام، فهو يؤمها في الصلاة، وهو الذي يؤذن للصلاة، ويخطب الجمعة، وله قيادة الجيوش، والخلافة العظمى، وهو المكلَّف بالإنفاق على الأسرة أي الزوجة والأطفال وغيرهما.
أما المجال الذي امتازت فيه المرأة على الرجل فمنه شدة عطفها على الأطفال، وقوة عاطفتها، وقدرتها على تربية الصغار، والقيام بالشؤون المنزلية، ولذا جعلها الإسلام مقدمةً على الرجل في هذا المجال، مثل حقِّ حضانة الأطفال عند افتراق الأبوين، وكذا عند استمرار الحياة الزوجية بينهما، وأراحها الله من النفقة على الأسرة؛ لتتفرَّغ لأمرٍ مهمٍّ وعظيمٍ وهو تربية الأطفال تربيةً صالحة تنفع الأمة في الحاضر والمستقبل، و بعد هذا التصوّر العام نجيب عن الأسئلة على هذا الأساس.
الآية (33) من سورة النساء هي قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا). ومعناها مرتبط بما قبله وهو قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) النساء /32، وكما ترى فالموضوع يتعلّق بما يكتسبه الرجال والنساء من مال وغيره وتظهر فيه التسوية في نيل ثمرة الكسب، ولا يجوز التحاسد بين المسلمين ذكوراً كانوا أم إناثاً.
أما بعد الموت، فالرجال لهم أقارب يرثونهم وفق التقسيم الشرعي الموضوع لهذه الغاية، وكذلك النساء (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ) النساء/33، يعني أقارب يرثون ما ترك من أموال سواء ورثها هو عن والديه وأقاربه، أو كسبها بطريق آخر مشروع، وكذلك إذا كان حِلف بين رجلين ولم يكن لأحدهما وارث فمات ورثه الآخر، ولا مجال لتفصيل الموضوع هنا.
ويُلاحظ في هذا الأمر التسوية بين الرجال والنساء؛ لأنه موضوع يتعلق بالمال. واعتقد أنك لا تسأل عن هذه الآية بل عن التي بعدها ورقمها (34) وهي قول الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)، هذه الآية تبين أن قيادة الأسرة للرجل (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) أي: عليهم واجب رعاية النساء، وتوجيههن، والإشراف على الأسرة، والإنفاق عليها، وليس معنى هذا التحكم والتسلُّط، فقد قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) سنن الترمذي، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وسنن ابن ماجه، باب حسن معاشرة النساء، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)، متفق عليه، وسبب تقديم الرجال في هذا الموضوع أن الله جعلهم أقدر عليه من النساء؛ بسب قوة الأجسام وصلتهم المستمرة بالمجتمع الخارجي، وهناك سبب آخر أن الرجل مكلف بأداء المهر للمرأة، والإنفاق عليها وعلى أطفالها: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) وهذه الأسرة لا بدّ لها من قائدٍ واحدٍ ككل خلية في المجتمع، والرجل أولى بلا شك. نعم هناك نساء أقدر من بعض الرجال على تدبير شؤون الأسرة ولكن هذا نادر، والأحكام الشرعية يراعى فيها الغالب.
ثم النساء في الأسرة نوعان: صالحات مطيعات لأزواجهن، حافظات لأنفسهن وأعراضهن وأموال الأسرة، سواء كان الرجل غائبا أو حاضراً، (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) النساء/34؛ لأن الله أمر الأزواج بحفظ حقوقهن، (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ).
والنوع الثاني من النساء ناشزات (أي متمرِّدات) على الأزواج يُنَكِّدْن حياتهم، وهؤلاء يجب على الأزواج إرشادهنَّ بالكلام الطيب المقنع المؤثِّر، وبيان أن النشوز يهدم كيان الأسرة، فإن لم يفد الإرشاد، ترك النوم معها في فراش واحد أو نام معها في الفراش وأدار لها ظهره، وترك مجامعتها حتى يظهر لها أنه ليس عبداً لشهوته، ويعرف هو أيضاً مدى حاجته إليها، فإن لم ينفع هذا الأسلوب وخشي الرجل أن يهدم تصرفها الأسرة جاز له أن يضربها ضرباً غير مبرّح - أي: غير مؤلم ألماً شديداً - فلا يدمي لحماً ولا يكسر عظماً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه: (لَوْلا مَخَافَةُ الْقَوَدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [أي: العقوبة من الله] لأَوْجَعْتُكِ بِهَذَا السِّوَاكِ) المعجم الكبير للطبراني، عن أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، والسواك كما تعلم عود صغير ليِّن.
فإن نفع هذا التأديب وإلا انتدب الرجل حكماً من أهله والمرأة حكماً من أهلها للنظر في الخلاف وحلِّه بالطلاق أو غيره، وهذا ما نصَّت عليه الآية التالية رقم (35)، فالضرب هنا علاج لحالة مستعصية ويكون آخر وسيلة لعلَّها تنقذ الأسرة من الضياع.
والضرب عقوبة مقررة في الشريعة الإسلامية على الرجال والنساء في بعض الجرائم، كشرب الخمر وزنا غير المحصن، والقذف، فليس تشريعه هنا في حق الزوجة مهانة لها بل هو جزاء لعصيان يُخشى منه تدمير الأسرة وضياع الأطفال، ومع ذلك يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذين يضربون زوجاتهم ليسوا من خيار المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ) رواه أبو داود.
أما في موضوع الشهادة فإن الله تعالى يقول: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)، البقرة/282. وإذا عرفنا أن واجب المرأة الرئيس في الأسرة هو تربية الأطفال والقيام بشؤونهم، عرفنا أن موضوع البيع والشراء والتجارة ليس مما يتلاءم مع طبيعتها وواجبها، ولذا: جعل الله شهادتها في هذا الموضوع عند الحاجة (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) وبهذا يبعدها عن المحاكم ومجالس القضاء؛ لأن الشاهد إنما يحتاج إليه عند التنازع أمام القاضي.
ثم إنّ الأسهل لصاحب الحق أن يستشهد شخصين بدلاً من ثلاثة ولذا يكون الأفضل أن يبحث لإثبات حقه عن رجلين بدلاً من رجل وامرأتين، وبهذا تُجنب المرأة هذا الموضوع.
إن الشريعة لم تكتفِ بشهادة رجلٍ واحدٍ، وطلبت لإثبات الحقوق رجلين وليس ذلك انتقاصاً للرجال بل للتأكد من ثبوت الحقوق الذي يترتب عليه أخذ مال الغير، وإقامة الحدود عليه، ومعاقبته بما نسب إليه من جرائم، بل في بعض المواضيع اشترط أربعة رجال.
بعد كل هذا نرى أن اشتراط رجل وامرأتين لإثبات الحقوق بدلا من رجلين ليس احتقاراً للمرأة، بل للتأكد من ثبوت الحق؛ لأن المرأة قد تلتبس عليها الأمور إذا طولبت بتفاصيل الصفقة التي شهدت عليها، فتذكرها صاحبتها، يقول الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) البقرة/282.
أمّا لماذا يوجه القرآن الخطاب فقط إلى الرجال ويتناسى النساء؟
فالجواب:
إن القرآن لا يتناسى النساء، وفي القرآن آيات كثيرة خاطبت النساء كما خاطبت الرجال ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الأحزاب/35.
وقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) آل عمران/195.
وهناك شيء يرجع إلى اللغة، فإن اللغة العربية تفرق في المخاطبة بين الذكر والأنثى، بينما اللغة الإنجليزية مثلاً لا تفرق بينهما في الخطاب.
فلو أن القرآن الكريم كرر في كل أمر مخاطبة النساء بعد مخاطبة الرجال لكان في ذلك إخلال بمقتضى البلاغة.
ولذا يكتفي بمخاطبة الذكور، أما الإناث فتبع لهم في بعض الأحكام دون بعض كما ذكرتُ في المقدمة.
مع أن القرآن الكريم كثيراً ما يستعمل ألفاظ العموم أي التي تشمل الرجال والنساء مثل كلمة (من) وتفصيل هذا يطول.
أما موضوع الزواج والطلاق، فإن المرأة والرجل لا يزوجان إلا برضاهما وهذا مفهوم، أما الطلاق فقد جعله الله في يد الرجل؛ لأنه أقدر على ضبط عواطفه وانفعالاته، وليست المرأة كذلك، فلو جعل الطلاق بيدها لأمكن أن تدمر الأسرة في حال غضب، وإن كان بعض الرجال حمقى يفعلون ذلك أيضاً، لكن الحكم للغالب، ثم إن المهر واجب على الرجل والمرأة تستحقه كاملاً بالدخول، فكيف تطلقه بعد ذلك وهو الذي دفع المهر.
على أن الإسلام قد فتح للمرأة باب التخلُّص من الرجل السيئ (بالمخالعة)، فان المرأة إذا أساء إليها الزوج ولم تستطع تحمُّل أذاه جاز لها أن تطلب الطلاق أمام القاضي مقابل ردِّ بعض المهر على الزوج.
وفي الختام إنّ الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...) النحل/90، ولم يظلم أحد في ظل الشريعة الإسلامية قال الله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فصّلت/46، ولكن التوزيع للواجبات والحقوق بحسب الخصائص والكفاءات بين الرجال والنساء تتفاوت.
ونحن إذا لاحظنا أن الأكثرية الساحقة من المبرزين في كافة حقول المعرفة هم الرجال، بينما النساء متفوّقات في قوة العاطفة، علمنا أن توزيع الواجبات والحقوق بين الرجال والنساء هو في الشريعة الإسلامية عين الصواب، قال الله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك/14، إن الله تعالى أعلم بخلقه ولذا كلّف كل نوع بما يحسن، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"فتاوى الشيخ نوح علي سلمان" (فتاوى الحياة العامّة / فتوى رقم/47)