الشيك هو الصك باللغة العربية، ولعل هذه الكلمة أصلها عربي، وحقيقته: أن يكتب الإنسان الذي عليه دَين لآخر كتاباً يعترف فيه بذلك الدين. وقد أمر الله تعالى المسلمين بذلك صيانةً لحقوقهم من الضياع، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) البقرة/282، وأمر بالإشهاد على الدَّين.
والدَّين قد يكون حالّاً (أي: مستَحَقّ الوفاء في الوقت الحاضر بلا تأجيل)، وقد يكون مؤجَّلاً (أي: يستحق الدفع بعد مدة معينة)، وفي هذا السؤال لم يتبيَّن هل الدَّين حالٌّ أم مؤجَّلٌ؟ ولكن المشكلة فيه أن الذي كتب الشيك ليس له رصيد في البنك، وهذه تُعَدُّ جريمة في القوانين الوضعية يعاقب عليها القانون، بينما لو كان سنداً بالمبلغ لم يشترط وجود رصيد في البنك، وأصحاب الديون يطلبون شيكاً بنكيّاً كوسيلة للضغط على المدين ليدفع الدين في الوقت المعيَّن.
وهنا كان أصل الدين ألف دينار، فأعطاه به شيكاً، ثم دفع من الدَّين (80) ديناراً، فبقي (920) ديناراً، والمفروض أن ينتظر حتى يحين وقت أداء الأقساط ولكنه لم يفعل ذلك؛ أراد أن يستوفي (700) دينار بدل (920) ويسامح بـ (220) ديناراً؛ فهو يتنازل عن شيء من حقِّه مقابل التعجيل في الدفع، ويُجبر المدين على ذلك بتهديده برفع الأمر للمحكمة.
فإن كان الدَّين مؤجَّلاً ويريد بهذا الأسلوب أن يسرع في قبض الدَّين فهي المسألة التي يسمِّيها الفقهاء مسألة (ضع وتعجَّل)، أي يقول المدين لصاحب الدين: "ضع شيئاً من دَينك (أي: سامح به) وأُعجِّل لك الوفاء". وإن كان الدين غير مؤجَّل فهو عبارة عن نوع من المصالحة يسامح بشيء من الدين مقابل عدم المماطلة.
وفي الحالة الأولى قال فقهاء الشافعية: هي عبارة عن إبراء من شيء من الدين معلَّقاً على التعجيل بالوفاء. فكأنه يقول له: "أسامحك ببعض الدين إن عجَّلت دفع الباقي". ولا يصحُّ تعليق الإبراء على شرط؛ فالمدين يجوز له أن يعجِّل الوفاء؛ لأنّ الأجل من مصلحته، وله أن يتنازل عن هذه المصلحة، ويجوز للدائن أن يقبل هذا التعجيل. وتنازُل الدائن عن شيء من حقِّه هو إبراء من بعض الدين وهو جائز، لكن لا ينعقد إن كان معلَّقاً على شرط، وهنا شرط الدائن تعجيل الوفاء ببعض الدين ليسامح بالبعض الآخر؛ فكان الإبراء غير صحيح.
فإذا دفع المدين بعض الدين وسامحه بالباقي فالوفاء صحيح والإبراء صحيح وقد انتهت العلاقة بينهما، أما إذا دفع المدين بعض الحق ولم يرضَ الدائن أن يُبرئه من الباقي فلا شيء على الدائن أمام القضاء؛ أي: لا يستطيع المدين بقوَّة القضاء أن يُلزمه بالإبراء من الباقي، لكنه آثم ديانةً لأنه أخلف الموعد، ونظراً إلى أنه عجَّل الوفاء طمعاً بالإبراء ولم يحصل الإبراء فله أن يستردَّ ما دفع إن كان الدين مؤجَّلاً كما هو المفروض في المسألة، وتهديد الدائن له برفع الأمر إلى المحكمة ظلم.
فتكون الخلاصة في الجواب عن الحال الأوَّل:
إذا كان الدين مؤجَّلاً فدَفَعَ المدين بعضه خوفاً من المحكمة وسامحه الدائن بالباقي؛ فالإبراء صحيح والوفاء صحيح والدائن آثم، لأنه أكره المدين على الوفاء قبل الأجل إن كان الدين مؤجَّلاً لوقت معلوم، ولا شيء على المدين لأنه لم يظلم أحداً، وليس هذا من باب الربا بل تنازل عن بعض الحقّ.
أما في الحالة الثانية (أي: إذا كان الدين حالاًّ) فإن الدائن يطالب بحقِّه، وإكراهه للمدين ليس إكراهاً على فعل ما لم يجب، فإذا دفع المدين بعض الدين وسامحه الدائن بالباقي؛ فالوفاء صحيح والإبراء صحيح ولا إثم على أحد منهما، ولكن الدائن فاتته بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً: سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) رواه ابن حبان، وفاتته بركة العمل، يقول الله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) البقرة/280، وهذا لم يُنظره.
"فتاوى الشيخ نوح علي سلمان" (فتاوى المعاملات/ فتوى رقم/26)