الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الموعظة لجماعة المصلين بعد تمام الصلاة لا نراها من التشويش المحذور، وذلك لأسباب كثيرة، منها:
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ الناس في كثير من الأحيان عقب الصلاة، ولم يُروَ أنه عليه الصلاة والسلام كان ينتظر فراغ المسبوقين، بل ولم يرو أنه كان ينتظر فراغ المأمومين من الأذكار الشرعية، ومن ذلك حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا. فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ) متفق عليه، وأحاديث أخرى كثيرة بنحوه يدل ظاهرها على ذلك.
بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في "صحيح البخاري" أنه كان يرفع صوته بالذكر عقب الصلاة أحياناً، ولم يمتنع عن ذلك خشية التشويش على المسبوقين.
ثانياً: ثم إن الواعظ لا يُكرِه الناس على استماع وعظه، فمن لم يرغب بالإنصات إليه يمكنه القيام إلى طرف المسجد واستكمال الأذكار الشرعية أو تلاوة القرآن كما يحب، بل إن مذهب الحنفية ينص على استحباب القيام عقب الصلاة مباشرة والإتيان بالأذكار الشرعية في البيت بعد السنة الراتبة، كما في "رد المحتار" (1/531).
ثالثاً: الناظر في الأحاديث النبوية التي تنهى عن التشويش على المصلين يلاحظ أن النهي فيها متجه إلى مطاولة الناس بعضهم على بعض بالقراءة أو بالصوت، فتقع المبالغة في رفع الصوت مع شيء من التصاول والخروج عن القصد، تلاحظ ذلك في حديث فروة بن عمرو البياضي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) رواه مالك في "الموطأ" (رقم/29)، وانظر تخريجه في "مسند أحمد" (31/363).
رابعاً: الموعظة عقب الصلاة من الأوقات المناسبة للوعظ في كثير من المناسبات، يحتاج الواعظ أن يذكر بالحكم الشرعي الذي يكثر السؤال عنه، أو يأمر بتقوى الله وينهى عن معصية الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل هذا الوقت كثيراً؛ فلا ينبغي للمصلين الانزعاج منه ولا الإنكار على الإمام بسببه.
خامساً: ينبغي أن لا تتجاوز الموعظة عقب الصلاة الدقائق المعدودة، يقدم فيها الواعظ الكلام النافع المفيد الذي يحمل للناس رسالة مختصرة مهمة، وبهذا لا يثقل على المصلين ولا على الذاكرين، ويحقق المقصود من وعظه، أما الإطالة والتكرار بحيث يشق على الناس عبادتهم فلا ينبغي أن يقع فيه الواعظ كي لا يكون سببا للتنفير، سواء عقب صلوات الفريضة أم في غيرها من الأوقات، عن أبي وائل قال: كَانَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَه رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحمَن، لَوَدِدتُ أَنَّك ذَكَّرتَنَا كُلَّ يَومٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّه يَمنَعُنِي مِن ذَلك أَنِّي أَكرَه أَن أُمِلَّكم، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُم بِالمَوعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَينَا (متفق عليه).
وأخيراً لا يفوتنا التنبيه على ضرورة استئذان الواعظ من الإمام الراتب كي لا يُحدث شقاقاً أو نزاعاً في المسجد. والله أعلم.