الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
لا يخلو مَن يشغل مكانا في المسجد من حالين:
1- إما أنه شغل المكان فعلا بالجلوس فيه، أو بالتعبد بالتلاوة أو الصلاة أو المذاكرة، ولكنه احتاج إلى الانتقال عن مكانه لعارض، كتجديد وضوء، أو قضاء حاجة، أو نحو ذلك: ففي هذه الحالة يحق له أن يحجز مكانه حتى يرجع، ولا يحل لأحد التعدي عليه؛ إذ هو أحق به، حتى لو جلس آخر في مكانه فإن للأول أن يقيمه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) رواه مسلم.
يقول الإمام النووي رحمه الله: "قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلا، ثم فارقه ليعود، بأن فارقه ليتوضأ أو يقضي شغلا يسيرا ثم يعود، لم يبطل اختصاصه، بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره فله أن يقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه؛ لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول، وقال بعض العلماء: هذا مستحب ولا يجب، وهو مذهب مالك، والصواب الأول، قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك فيه سجادة ونحوها أم لا، فهذا أحق به في الحالين، قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها" انتهى من "شرح مسلم" (14/161).
2- وأما إذا لم يشغله فعلا، وإنما احتج بعادته، حيث اعتاد كلما دخل المسجد أن يتعبد في ذلك المكان، فليس من حقه أن يستقل بتلك البقعة، ولا يحل له أن يقيم غيره ممن سبقه إليها، فإن أدى ذلك إلى إحداث جلبة وارتفاع لغط في المسجد فقد استحق إثما أعظم، فبيوت الله عز وجل ملك لله، لا يحل لأحد أن يستأثر بها دون الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ) رواه الترمذي (881) وقال: حديث حسن.
ولكن يستثنى من الحالة الثانية العالم والفقيه أو المقرئ الذي أَلِفَ مكانا خاصا يقيم فيه درسه، أو يجتمع عليه الطلاب لقراءة القرآن، فهو أحق بهذا المكان من غيره على جميع الأحوال، وله أن يقيم مَن جلس في ذلك المكان، كي لا يتعطل العلم، ولا يقطع على المتعلمين فرصتهم.
يقول الإمام النووي رحمه الله: "إلا أن أصحابنا استثنوا منه ما إذا أَلِفَ من المسجد موضعا يفتي فيه، أو يُقرِأُ قرآنا أو غيره من العلوم الشرعية، فهو أحق به، وإذا حضر لم يكن لغيره أن يقعد فيه" انتهى من "شرح مسلم" (14/160)
أما من يقرأ القرآن لنفسه، أو يتعبد بالصلاة والدعاء لربه، فهذا نفعه قاصر لا يتعدى لغيره، فليس له استثناء في كلام العلماء، ولا يحل له أن يقيم أحدا من المكان الذي اعتاده، إلا إذا انطبقت عليه الحالة الأولى.
ومن أحب التوسع فليرجع إلى "نهاية المحتاج وحاشيته" (5/346-348) في شرح قول المصنف: "ومن ألف من المسجد موضعا". والله أعلم.