ليست هذه الوساوس من نفس الإنسان، وإنما هي صادرة من فعل الشيطان، ولا إثم على الإنسان فيها؛ لأنها ليست من كسبه، وصنعته، ويتوهم الإِنسان أنها من نفسه، ولما كان الشيطان يحدّث بها القلب ولا يلقيها إلى السمع، يتوهم الإِنسان أنها صادرة منه، فيحرج لذلك ويكرهه من غير أن ينشرح له صدره، ولو كان منه لانشرح له صدره وقد قام بالوظيفة في كراهة ذلك، كما لو صدر ذلك من إنسان فسمعه بأذنه فكرهه مع العجز عن إزالته، فكذلك كراهة ما يلقيه الشيطان في قلبه هي الوظيفة في ذلك، إذ لا يقدر على دفع الشيطان عن الوساوس، كما لا يقدر على دفع من يعجز عن دفعه من المصلين.
إنما خفت الكراهة في ذلك في آخر الأمر من جهة أن المعاصي إذا اعتيدت خفت كراهتها، ألا ترى أن أكثر الناس يتركون الصلوات المكتوبات فلا تشتد كما تشتد كراهة الإفطار في شهر رمضان بغير عذر؛ لأن ذلك غير معتاد، فخفة كراهة الوسواس كخفة كراهة ما اعتيد من العصيان، كشرب الخمر وإتيان الذكور وغير ذلك من العصيان، وقد تقع معصية صغيرة غير معتادة، فتشتد كراهتها أكثر مما تشتد كراهة الكبائر المعتادة.
ولا طريق لمثل هذا إلا الالتجاء إلى الله تعالى في دفع وسواس الشيطان، فإنّ غرضه بذلك أن يوهم الإنسان أنه قد كفر وأن عبادته لا تقبل مع كفره، ليترك العبادة والطاعة، فإذا عرف العبد أن ذلك صادر من الشيطان لهذا الغرض انقطع الشيطان عن تلك الوساوس إذ لا فائدة له فيها، فإذا عرف أنه لا يُلتَفَتُ إليه سكن، إذ لا فائدة لسعيه.
وقد رأيت كثيراً من العُبَّادِ الذين صح انقطاعهم إلى العبادة ابتلوا بمثل هذا، أو بأشد منه، فلما عَرَّفتُهم بما ذكرته لم يلبثوا إلا قليلاً حتى أزال الله تعالى عنهم كيد الشيطان لانقطاع طمعه من فائدة سعيه، والله المستعان على دفع الشيطان، وعلى دفع مكائد نفس الإنسان. والله أعلم.
"فتاوى العز بن عبد السلام" (رقم/80)