السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم سبعة أقسام:
القسم الأول: العارفون بالله تعالى، ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم، فمن غلب عليه الخوف، أثَّرَ فيه السماع عند ذكر المُخَوِفات، وظهرت عليه آثاره من الحزن والبكاء وتغير الألوان.
والخوف على أقسام:
أحدها: خوف العقاب، والثاني: خوف فوات الثواب، والثالث: خوف فوات الحظ من الأنس والقرب من الملك الوهاب، وهذا من أفضل الخائفين، وأفضل السامعين، فمثل هذا لا يتصنع في السماع، ولا يصدر منه إلا ما غلب عليه من آثار الخوف؛ لأن الخوف وازع من التصنع والرياء، وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيره فيه أشد من تأثير النشيد والغناء.
القسم الثاني: من غلب عليه الرجاء، فهذا يؤثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات، فإن كان رجاؤه للأُنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين، وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في الرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني.
القسم الثالث: من غلب عليه الحب، وهو قسمان:
أحدهما: من أحب الله تعالى لإنعامه، فهذا يؤثر فيه سماع الإنعام، والإفضال، والإحسان، والإكرام.
الثاني: من غلب عليه حب الله تعالى لشرف ذاته وكمال صفاته، فهذا يؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، ويشتد تأثره فيه عند ذكر الإقصاء والإبعاد، وهو أفضل من الذي قبله؛ لأن سبب حبه أفضل الأسباب.
القسم الرابع: من غلب عليهم التعظيم والإِجلال، فهذا أفضل من الأقسام الثلاثة، إذ لا حظَّ في سماعه لنفسه، فإن النفس تتضاءل وتتصاغر للتعظيم والإجلال، فلا حظ لنفسه في هذا السماع، بخلاف من تقدم ذكره من الأقسام، فإنهم واقفون مع ربهم من وجه، ومع أنفسهم من وجه أو وجوه، وشتان بين ما خلص لله وبين ما شاركته النفوس، فإن المحب ملتذ بجمال محبوبه وهو حظ نفسه، والهايب ليس كذلك.
وتختلف أحوال هؤلاء من المسموع منه، فالسماع من الأولياء أكثر تأثيراً من السماع من الجهلة الأغبياء، والسماع من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم أشد تأثيراً من السماع من الأولياء، والسماع من رب الأرض والسماء أشد تأثيراً من السماع من الأنبياء؛ لأن كلام المهيب أشد تأثيراً في الهايب من كلام غيره، كما إن كلام الحبيب أشد تأثيراً في المحب من كلام غيره، ولهذا لم يشتغل الأنبياء والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي واقتصروا على سماع كلام ربهم لشدة تأثيره في أحوالهم.
ولقد غلط كثير من الناس في سماع النشيد والغناء بالملاهي المختلف فيها، من جهة أصوات الملاهي، وطيب النشيد، وطيب نغمات الغناء فيها حظ للنفوس، فإذا سمع أحدهم شيئاً مما يحرك حاله التذّت نفسه بأصوات الملاهي ونغمات الغناء، وذكَّره النشيد والغناء بما يقتضيه حاله من الحب والخوف والرجاء، فتثور فيه تلك الأحوال فتلتذ النفس من وجه تُؤثِرُهُ، وتؤثر السماع فيما يشتمل عليه الغناء من الحب والخوف والرجاء، فيحصل له الأمران: لذة نفسية، والتعلق بأوصاف ربه سبحانه وتعالى فيظن أن الكل متعلق بالله تعالى وهو غلط.
القسم الخامس: من يغلب عليه هوىً مباح كمن يعشق زوجته وسريته، فهذا يهيّجه السماع، ويؤثّر فيه آثار الشوق وخوف الفراق، ورجاء التلاق، فيطرب لذلك، فسماع مثل هذا لا بأس به.
القسم السادس: من يغلب عليه هوىً محرم كهوى المُردِ، ومن لا يحل له من النساء، فهذا يهيجه السماع إلى السعي في الحرام، وما أدى إلى الحرام فهوى حرام.
القسم السابع: من قال: لا أجد في نفسي شيئاً مما ذكرتموه في الأقسام الستة فما حكم السماع في حقي؟
قلنا: هو مكروه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة، فربما هاجه السماع على صورة مُحَرَّمٍ، فيتعلق بها، ويميل إليها، ولا يحرم عليه ذلك لأنَّا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة، فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها، ويراؤون الحاضرين بأن سماعهم للأسباب المذكورة في الأقسام الستة، وهذا قد جمع بين المعصية وبين إيهام كونه من الأولياء، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم، ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس بهم، فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاه لأجل رب العالمين، وهذا مراءٍ بأمرٍ غير محرم. والله أعلم.
"فتاوى العز بن عبد السلام" (رقم/71)
* للاطلاع على فتوى دائرة الإفتاء المعتمدة في هذه المسألة ينظر الفتاوى رقم (3463).