هذا المعترض جاهل، لا يفرق بين حقوق الله عز وجل المقربة إليه الموجبة لثوابه، وبين معاصي الله تعالى المبعدة منه الموجبة لعقابه، فإن حقوق الله تعالى هي: الإيمان والإسلام، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، والصدقات، والكفارات، وأنواع العبادات، قال صلى الله عليه وسلم: (حق الله على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنّة) رواه البخاري ومسلم.
وأما الذنوب فهي مخالفة الله تعالى ومعصيته، فالحج يسقط ذنوب المخالفة ولا يسقط حقوق الله تعالى: كالصلاة، والزكاة، والحج، والعمرة، وصوم شهر رمضان، فما أجهل من جعل طاعة الله تعالى وإجابته ذنوباً تغفر، وإنما المغفور المخالفة لا عين الحقوق، فمن ترك الصلاة أو الزكاة، أو غيرهما من الحقوق، فالحج يكفر عنه إثم التأخير، لأنه هو الذنب، وأما إسقاطه لما استقر في الذمة من صلاة، وزكاة، ونذر، وحج، فهذا خلاف إجماع المسلمين، وحسبك بجهل من يخالف إجماع المسلمين، ثم يزعم أن ذكر ما أجمعوا عليه سد لباب رحمة الله تعالى عن عباده منفر عن الحج.
ولو عرف هذا الغبي أن ذكر ما أجمع عليه المسلمون ليس بمُنَفِّر، بل هو سبب موجب للمحافظة على حقوق الله تعالى، وللخوف والوجل الوازع عن معصية الله تعالى لما زعم أنه مُنَفِّر، ولو أفتى أحد من أهل الفتيا بأن الحج يُسْقِطُ شيئاً من حقوق الله تعالى لاجترأ العصاة على أن يتركوا كل حق من حقوق الله تعالى، ثم يحجوا إسقاطاً لجميع حقوق الله تعالى.
فالذي يوجبه الحج الذي اجتنب فيه الرفث والفسوق إنما هو إسقاط المعاصي والمخالفات، وليست حقوق الله تعالى معصية ولا مخالفة حتى تندرج في الحديث.
فيخرج من هذا: وجوب تعزير هذا الجاهل المحرّف لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صريحه، وما أجزأه ذلك حتى قال: من زعم أن الحقوق لا تسقط بالحج كان ميئّساً للناس من الرحمة، ويلزمه أن يكون المسلمون قد سدوا باب الرحمة لإجماعهم على أن الحج لا يسقط حدود الله تعالى، فمن أخر الكفارة أو النذر أو الصلاة أو الزكاة أو الصوم عن أوقاتها التي أوجبها الله عز وجل فيها كان عاصياً بمجرد التأخير، فتلك المعصية هي التي يكفرها الحج المبرور، وأما إسقاط تلك الحقوق بالحج، فهذا شيء لم ينقله أحد من أهل الإسلام، وأضر ما على المسلمين جاهل مثل هذا يقول ما لم يقله أحد من أهل الإسلام، ثم يفتي بأن ذكر ما أجمع المسلمون عليه سد لباب رحمة الله تعالى (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) المجادلة/18، وكفى به غباوة وجهلاً أن لا يفرق بين الحق الذي هو طاعة وسبب قرب عند الله تعالى، وبين المعصية التي هي مخالفة وسبب بعد من الله عز وجل.
وأما ما ذكره من الحديثين الأخيرين فليس بثابت يعتمد على مثله، وإن كان البخاري رحمه الله قد ذكر أحدهما في تاريخه وفيه طعن ولم يصححه البخاري رحمه الله، والله يحول بين المسلمين وبين جاهل يضلهم ويغويهم، ويظنوا أنه يرشدهم ويهديهم. والله أعلم.
"فتاوى العز بن عبد السلام" (رقم/69)