جواب الشيخ إملاء:
للنجاسة أحوال:
إحداهن: أن تكون متيقنة: فيجب اجتنابها إلا ما عفا الشرع عنه.
الثاني: أن تكون مظنونة بسبب يعتمد الشرع عليه: كخبر الصادق، فهذه كالمتيقنة.
الثالث: أن تكون مظنونة بغلبة المخامرة والملابسة: كثياب الدباغ، والقصاب، والمدمن على شرب الخمر، فقد اختلف العلماء في وجوب الاجتناب، فإذا لم توجب ذلك كان اجتنابه من آكد رتب الورع.
الرابع: أن تكون النجاسة موهومة ولتوهمها حالات:
إحداها: أن يكون توهمها في غاية البعد في العادة، فهذا لا يتورع عن مثله؛ لأنه يكدر حضور القلب في العبادة شغلا بالتوسوس في النجاسة عن ذكر الله تعالى في الصلاة، وما غرض الشيطان إلا ذلك، ولأن من كثر وسواسه ثقلت عليه الطاعات والعبادات، وربما كرهها أو ترك أكثرها، هذا جملة أغراض الشيطان، فإنه إذا يئس أن يطاع في الفسوق والعصيان أتى الإنسان من قبل الورع والاحتياط للعبادات ليثقلها عليه، ويبغضها إليه، وليشغله عن ذكر المعبود بانصباب الفكر إلى النجاسات، وليقطع عنه روح الرجاء في عباداته إذا أخطر بباله أنها باطلة لفوات شرطها، فلم تسكن إلى روح رجائها.
الحال الثانية: أن يكون وهم النجاسة دون الغلبة المذكورة، وفوق الوهم البعيد، فالورع هنا هو الحزم، (فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [أخرجه أحمد في مسنده]، بشرط: أن لا يتعدى ورع السلف، فقد كانوا يصلون في نعالهم، ويمشون في الطين ويصلون ولم يكن في المسجد بسط، ولا حصر، وكان يطؤها البر والفاجر، ومن يتحرز النجاسات، ومن لا يتحرز، ولم يزل المسلمون يطوفون، ويقبّلون الحجر الأسود، ويصلون في المقام، وفي المسجد الحرام مع كثرة من يرده من العامة الذين لا يعرفون النجاسات.
ومن الغرائب أن بعض قضاة الشاميين أتى المطاف، فأمر أن يغسل بماء زمزم، وأن يغسل الحجر ظنا منه أن ذلك ورع، ولم يدر المسكين أن هذه بدعة في الإسلام لم يسبق إليها ولم يوافق عليها.
ومن الغرائب أيضا: أنه كان لنا صاحب لا يأكل الثمار حتى يغسلها لتجويز أن يمر بها طائر فيبول عليها، وما نظر هذا المسكين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الرطب، مع تجويز ذلك، وأنه لا خير في ورع لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد يقتدى به في الدين.
ولم يزل أهل الإسلام يأكلون الحنطة والشعير وسائر الحبوب مع العلم أنها تُدرس بالبقر، وأنها لا تخلو من أن تبول عليها، ولم يتورع عن ذلك إلا قوم متأخرون لا يقتدى بمثلهم في الدين.
والضابط في هذا أنه متى عرض على تجويز النجاسة فليعرض على هذه الاحتمالات، ثم يجري على كل احتمال حكمه الذي ذكرناه من وجوب الاجتناب وغيره من الاحتمال القريب دون الاحتمال البعيد الغريب، وعلى ذلك درج السلف والخلف الذين يقتدى بمثلهم، ولا حجة في فعل الموسوس؛ لأن الوسواس لا يقع إلا لخور في الطبع أو جهل بالشرع، وقد لبس رسول الله جبة شامية، وأكل من طعام الكفار، وجوّز استعمال فضول السباع.
وعلى الجملة فدين الله تعالى يسر، ومن فتح على نفسه باب التجويز البعيد فقد خالف سيد الورعين صلى الله عليه وعلى اله محمد وسلم تسليما.
وعلى هذا لا يصلي إلى جنب من يتحقق نجاسة ثيابه، بحيث يمس منه ما يشترط تطهيره، وكذلك من غلبت عليه مخامرة النجاسة كالدباغين، ولا يعامل بذلك من يتوهم نجاسة ثيابه ولا نجاسة بدنه، والصلاة في الصف إلى جنبه لحياز فضيلة الصف أولى؛ ولأن المنفرد عن الصف قد اختلف العلماء في صحة صلاته، فلا يُفوِّت فضيلة الصف وفضيلة الخروج من الخلاف لورع مستند إلى أوهام، إذ لا يضيع المتحقق بالمتوهم.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل الخلاء فرأى الذباب يقع على النجاسة، ثم يقع على ثيابه، فاتخذ ثوبا يلبسه إذا دخل الخلاء، ثم يخلعه إذا خرج، ثم ندم على ذلك، وألقى الثوب خوفا من الابتداع في الدين وقال: "إن من كان قبلنا كانوا يعرفون ذلك ولا يتحرزون منه". والله أعلم.
"فتاوى العز بن عبد السلام" (رقم/11)