المذهب الأشعري

الكاتب : الباحث الدكتور حمزة مشوقة

أضيف بتاريخ : 22-04-2025


المذهب الأشعري

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فيعتبر المذهب الأشعري من أبرز المذاهب التي انتشرت عند أهل السنة والجماعة عبر عصور التاريخ الإسلامي، وقدم العلماء المنتسبون لهذا المذهب جهوداً عظيمة في الدفاع عن عقائد الإسلام والرد على الفرق والأفكار المنحرفة والشاذة، وقد كثُر اللغط والتشويش على هذا المذهب العظيم في هذا العصر، فأراد الباحث أن يعرّف بهذا المذهب، ويُجلّي حقيقته بطريقة سهلة وواضحة للناس، والله ولي التوفيق.

مؤسس المذهب الأشعري

تأسس المذهب الأشعري على يد الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) الذي يعتبر من أبرز متكلمي أهل السنة، وقد كان الأشعري معتزلياً في بداية حياته ثم رجع إلى مذهب أهل السنة وأخذ ينتصر لعقيدتهم بالأساليب الكلامية، وقد برع الأشعري في العلوم العقلية، واشتهر بقوة الجدال والمناظرة، وانتسب كثير من علماء أهل السنة لمذهبه، واعتمده العلماء كمذهب سني معتبر، وشكّل الأشعري نقطة تحول وتجديد في تاريخ أهل السنة من حيث تدعيم العقائد السنية بالحجج العقلية والأساليب الكلامية، وتأسيس منهج وسطي يجمع بين النقل والعقل.

ويرجع سند الإمام الأشعري عن الإمام أبي يحيى زكريا الساجي؛ قال الحافظ الذهبي: "أخذ عنه أبو الحسن الأشعري مقالة السلف في الصفات" [سير أعلام النبلاء 11/ 122]، وأخذ الساجي عن الإمام الربيع المرادي والإمام المزني عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك.

قال العلامة ابن خلدون: "لما كثرت العلوم والصنائع، وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألَّف المتكلمون في التنزيه، حدَثت بدعة المعتزلة... وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، فأثبت الصفات الأربع المعنوية، والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل، وردَّ على المبتدعة في ذلك كله" [تاريخ ابن خلدون 1/ 587].

وقال عنه الحافظ الذهبي: "الأشعري العلامة إمام المتكلمين.. كان عجبا في الذكاء، وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال، كرهه وتبرأ منه، وصعد للناس، فتاب إلى الله تعالى منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة، ويهتك عوارهم.. قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم، حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم" [سير أعلام النبلاء 11/ 392].

انتشار المذهب الأشعري

وقد انتشر المذهب الأشعري في العالم الإسلامي بجهود العلماء، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:

1- الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بالدمل: وهو من طلاب الإمام الأشعري، ونشر المذهب الأشعري في الشام.

2- الإمام الباقلاني، كان يرسل طلابه لينشروا المذهب الأشعري في البلاد، ومنهم الإمام الحسين بن حاتم الأزدي الذي أرسله الباقلاني إلى الجامع الأموي في دمشق لتدريس المذهب ثم توجه إلى بلاد المغرب العربي، ومنهم أبو طاهر البغدادي الذي أرسله الباقلاني إلى القيروان.

3- كان لطلاب الباقلاني دور كبير في نشر المذهب الأشعري في القيروان، ومنهم: الإمام أبو الحسن القابسي والإمام أبو عمران الفاسي، وهما من كبار طلاب ابن أبي زيد القيرواني.

4- الإمام أبو ذر الهروي نشر المذهب الأشعري في الحرم المكي، وأخذ عنه الطلاب المغاربة العقيدة الأشعرية وعادوا بها إلى بلادهم.

5- أبو بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي القيرواني، يعتبر أول من نشر المذهب الأشعري في المغرب، وتلميذه أبو الحجاج الضرير يعتبر شيخ القاضي عياض.

6- أما في بلاد خراسان وفارس وبلاد ما وراء النهر فيرجع الفضل في نشر العقيدة الأشعرية فيها إلى الإمام أبي سهل الصعلوكي، والإمام أبي بكر ابن فورك، والأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني وغيرهم.

وكان لرعاية الدولة نصيباً كبيراً في دعم المذهب كالدولة السلجوقية في بلاد فارس وخراسان والعراق التي أسست المدارس النظامية واعتمدت المذهب الأشعري، ووقف المذهب الأشعري السني أمام المد الإسماعيلي الباطني عن طريق المدارس النظامية، وجهود إمام الحرمين الجويني وحجة الإسلام الغزالي.

والدولة الأيوبية ممثلة بالسلطان البطل صلاح الدين وإخوته في مصر وبلاد الشام والذي وقف أمام التيار الشيعي الفاطمي ونشر العقيدة الأشعرية السنية على مآذن المساجد، واشترط على الأوقاف والقضاة المذهب الأشعري في الاعتقاد والشافعي في الفقه، وتبعهم دولة المماليك فاشترطوا في القضاء والإفتاء المذهب الأشعري في الاعتقاد والمذاهب الأربعة في الفقه، وأما الدولة العثمانية فعملت على نشر المذهب الأشعري والماتُريدي في الاعتقاد في البلاد الإسلامية التي خضعت لها.

وفي بلاد المغرب العربي كان أبو عمران الفاسي أحد كبار علماء الأشاعرة المؤسس الفكري لحركة المرابطين، وعندما تولى السلطان يوسف بن تاشفين قرّب منه أكابر علماء الأشاعرة كابن رشد الجد الذي تولى منصب قاضي القضاة وابن العربي، وكان ابن تاشفين يراسل حجة الإسلام الغزالي ليسأله في الفتاوى، ثم تبنت دولة الموحدين نشر العقيدة الأشعرية بطريقة رسمية، فألف السلطان محمد ابن تومرت (المرشدة) في العقيدة وأمر بتدريسها للناس وحفظها.

وما زالت أكبر المؤسسات العلمية في العالم الإسلام على المذهب الأشعري كالجامع الأزهر في مصر، وجامع القرويين في المغرب، وجامع الزيتونة في تونس، والمسجد الأموي في دمشق، وندوة العلماء ودار العلوم ديوبند في الهند، وغيرها من منارات العلوم الموجودة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

هل المذهب الأشعري يعد مذهباً معتبراً عند أهل السنة؟

يعد مذهب الأشعري من المذاهب التي اعتمدها علماء أهل السنة وساروا عليها، ولذلك فقد ذكر الإمام العز بن عبد السلام أن عقيدة الأشعري اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة "انظر: [إيضاح الكلام/ص10]، وقال العلامة شمس الدين السفاريني الحنبلي: " أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي" [لوامع الأنوار البهية 1/ 73]، فلو كان المذهب الأشعري مبتدعاً لما اعتمده علماء أهل السنة وساروا على ذلك قرونا طويلة، ولا يجوز أن تجتمع هذه الأمة على ضلالة، وفيما يأتي قائمة بأبرز العلماء الذين انتسبوا للمذهب الأشعري:

أولاً: أبرز الفقهاء الذين انتسبوا للمذهب الأشعري:

انتشر المذهب الاشعري في فقهاء المالكية والشافعية، وتبنى فقهاء الحنفية المذهب الماتُريدي في الاعتقاد، وأما فقهاء الحنابلة فقد استقلوا بمذهب خاص بهم، ومن أبرز الفقهاء الذين انتسبوا للمذهب الأشعري:

1- أبرز فقهاء المذهب المالكي: أبو بكر الأبهري (ت 375هـ)، وأبو الحسن القابسي (ت403ه)، وأبو عمران الفاسي (ت 430هـ)، والقاضي عبد الوهاب البغدادي (422هـ)، وأبو الوليد الباجي (ت 474هـ)، وابن رشد الجد (ت 520)، والمازري (ت 536هـ)، وأبو بكر ابن العربي (ت 543ه)، وابن الحاجب (ت 646هـ)، وشهاب الدين القرافي (ت 684هـ)، وابن الحاج الفاسي (ت 737هـ)، وخليل بن إسحاق الجندي صاحب [مختصر خليل] (ت 776هـ)، وأبو إسحاق الشاطبي (790هـ)، وابن فرحون (ت 799هـ)، وابن خلدون (ت 808هـ)، وأبو العباس الونشريسي (ت 914هـ)، والحطاب (ت 945هـ)، وأحمد الدردير (ت1201هـ)، ومحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230هـ)، وأحمد بن محمد الصاوي (ت 1241هـ)، فهؤلاء هم أعمدة المذهب المالكي، وغيرهم الكثير.

2- أبرز فقهاء المذهب الشافعي: أبو إسحاق المروزي (ت 340هـ)، وأبو بكر القفال الشاشي (ت 365هـ)، وأبو زيد المروزي (ت 371هـ)، وأبو إسحاق الشيرازي (ت 476هـ)، وإمام الحرمين الجويني (ت 478هـ)، وأبو حامد الغزالي (ت 505هـ)، وابن الرفعة (710هـ)، والعز بن عبدالسلام (ت  660هـ)، وأبو القاسم الرافعي (ت 623هـ)، وأبو زكريا النووي (ت 676هـ)، وتقي الدين السبكي (ت 756هـ)، وتاج الدين السبكي (ت 771هـ)، وجمال الدين الإسنوي (ت 772هـ)، وزكريا الأنصاري (926هـ)، وابن حجر الهيتمي (ت 974هـ)، والخطيب الشربيني (ت 977هـ)، وشمس الدين الرملي (ت 1004هـ)، فهؤلاء هم أعمدة المذهب الشافعي، وغيرهم الكثير.

ثانياً: أبرز المفسرين وعلماء القراءات الذين انتسبوا للمذهب الأشعري:

أبو عمرو الداني (ت 444هـ)، وأبو القاسم القشيري (ت 465هـ)، وأبو الحسن الواحدي (ت 468هـ)، وأبو محمد البغوي (ت 516هـ)، وابن عطية الأندلسي (ت 542هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، وناصر الدين البيضاوي (ت 685هـ)، وابن جزي الغرناطي (ت 741هـ)، وأبي حيان الأندلسي (754هـ)، والسمين الحلبي (ت 756هـ)، وبدر الدين الزركشي (ت 794هـ)، وأبو الخير ابن الجزري (ت 833هـ)، وبرهان الدين البقاعي (ت 885هـ)، ومحمد الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ)، ومحمد متولي الشعراوي (ت 1418هـ)، وفضل حسن عباس (ت 1433هـ)، ومحمد علي الصابوني (ت 1442هـ)، فهؤلاء من أعمدة المفسرين وغيرهم الكثير.

ثالثاً: أبرز المحدثين الذين انتسبوا للمذهب الأشعري:

ابن حبان البُستي (354هـ)، وأبو بكر الإسماعيلي (ت 371هـ)، وأبو الحسن الدارقطني (ت 385هـ)، وأبو عبدالله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ)، وأبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ)، وأبو ذر الهروي، (ت 434هـ)، وأبو بكر البيهقي (ت 458هـ)، والقاضي عياض (ت 544)، وابن عساكر (ت 571هـ)، وابن الصلاح (ت 643هـ)، وزكي الدين المنذري صاحب [الترغيب والترهيب] (ت 656هـ)، وابن دقيق العيد (ت 702هـ)، وصلاح الدين العلائي (ت 761هـ)، وزين الدين العراقي (ت 806هـ)، ونور الدين الهيثمي (ت 807هـ)، وابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، وشمس الدين السخاوي (ت 902هـ)، وجلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، فهؤلاء من أعمدة المحدثين، وغيرهم الكثير.

رابعاً: أبرز القادة والمجاهدين الذين انتسبوا للمذهب الأشعري:

ألب أرسلان بطل معركة "ملاذكرد" (ت 465هـ)، ويوسف بن تاشفين بطل معركة "الزلاقة" (ت500هـ)، ونور الدين زنكي (ت 569)، وصلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ)، ويعقوب بن منصور الموحدي بطل معركة "الأرك" (ت 595هـ)، وشهاب الدين الغوري (ت 602 هـ)، وسيف الدين قطز (ت 658هـ)، والظاهر بيبرس (ت 676هـ)، والمنصور قلاوون بطل معركة حمص (ت 689هـ)، والأشرف خليل بن قلاوون الذي قضى على آخر معاقل الصليبيين في بلاد الشام (ت 693هـ)، والناصر محمد بن قلاوون بطل معركة "شقحب" (ت 741هـ)، والأشرف برسباي الشركسي فاتح قبرص (ت 841هـ)، وغازي الداغستاني (ت 1244هـ)، وشامل الداغستاني (ت1288ه)، وعبد القادر الجزائري (ت 1300هـ)، وعمر المختار (ت 1350هـ)، وعزالدين القسام (1354هـ)، ومحمد بن عبدالكريم الخطابي (ت 1382هـ)، وغيرهم الكثير.

ما أهم الأصول التي قام عليها المذهب الأشعري؟

أسس الإمام أبو الحسن الأشعري لمنهج علمي مبني على عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن أبرز معالم هذا المنهج:

أولاً: أهمية استخدام الحجج العقلية في الدفاع عن عقائد الإسلام؛ فقد بحث الإمام الأشعري في كتابه [استحسان الخوض في علم الكلام] في الحجج العقلية التي يستخدمها المتكلمون، وبين أن أصولها موجود في الكتاب والسنة، فالقرآن والسنة لم يهملا العقل، ولم يحرما النظر والاستدلال، واستعمال العقل في فهم الشرع وتأييده ضرورة؛ وفي ذلك يقول الحافظ ابن عساكر موضحاً طريقة الإمام الأشعري وأصحابه في الجمع بين الأدلة النقلية والعقلية فيقول: "يجمعون في مسائل الأصول بين الأدلة السمعية وبراهين العقول، ويتجنبون إفراط المعتزلة، ويتنكبون طرق المعطلة، ويطرحون تفريط المجسمة المشبهة" [تبيين كذب المفتري/ ص397].

ثانياً: يعتبر العقل خادماً لنصوص الكتاب والسنة، وليس حاكماً عليهما، فقد أناط الله بالعقل وظيفة فهم نصوص الكتاب والسنة في ضوء قواعد اللغة والدلالات، وأنيط بالعقل كذلك وظيفة تدعيم مقررات الكتاب والسنة بالبراهين العقلية، وليس للعقل أن يتسلط على الكتاب والسنة بالحكم عليهما لصالحه، وليس للاجتهادات العقلية أن تحكم بالتغيير والتأويل المجانب لقواعد اللغة والدلالات على نصوص الكتاب والسنة، وهذا الأصل يظهر تميز أهل السنة عن غيرها من الفرق الإسلامية التي اتبعت العقل وأظهرته على النقل؛ قال الإمام الأشعري: "ولا نقدم بين يدي الله في القول" [مقالات الإسلاميين 1/ 168].

ثالثاً: الاستدلال يكون بالأدلة النقلية (الكتاب والسنة) والأدلة العقلية على وجه التعاضد، فكل من الأدلة النقلية والعقلية يؤيدان بعضهما البعض؛ قال الإمام الغزالي: "وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بالدلائل العقلية والبراهين" [الرسالة اللدنية/ ص38].

رابعاً: الاستدلال بالسنة النبوية في مسائل العقائد، والسنة تشمل المتواتر الذي رواه جمع عن جمع، وتشمل كذلك سنة الآحاد التي رواه راوٍ أو أكثر ولم تبلغ حد التواتر؛ قال الإمام الأشعري: "ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" [الإبانة عن أصول الديانة/ ص27].

خامساً: كل ما ورد في الكتاب والسنة فيما يتعلق بصفات الله وذاته يجب فهمه على ظاهره، ولا يجوز إخراجه إلى معنى مجازي إلا إذا خالف ظاهره محكمات الكتاب والسنة أو قواطع العقول؛ قال الإمام فخر الدين الرازي: "صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع" [أساس التقديس/ ص234].

سادساً: تنزيه الله تعالى عن مشابهة أحد من خلقه؛ قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، قال الإمام الفخر الرازي: "احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]" [تفسير الرازي 27/ 582].

سابعاً: التحذير من التسرع في التكفير: فلا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة بذنب أو كبيرة ما لم يستحله، ولا يجوز تكفير أحد من أتباع المذاهب الإسلامية ما دام رأيه مبنياً على شبهة تأويل من الكتاب والسنة؛ قال الإمام الغزالي: "والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم" [الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي/ ص135].

هل خالف الأشاعرة عقيدة السلف؟

يعتبر الإمام الأشعري وعلماء الأشاعرة من بعده من المناضلين المدافعين عن عقيدة السلف الصالح، فلم يبتدع الأشعري عقيدة جديدة، بل أسس لمنهج سني في تدعيم عقائد السلف بالبراهين العقلية؛ قال الإمام أبو بكر البيهقي: "إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله فلم يحدث في دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين، فنصرها بزيادة شرح وتبيين، وأن ما قالوا في الأصول وجاء به الشرع صحيح في العقول خلاف ما زعم أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء، فكان في بيانه تقوية ما لم يدل عليه من أهل السنة والجماعة، ونصرة أقاويل من مضى من الأئمة كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي وغيره من أهل الشام، ومالك والشافعي من أهل الحرمين، ومن نحا نحوهما من الحجاز وغيرها من سائر البلاد، وكأحمد ابن حنبل وغيره من أهل الحديث، والليث بن سعد وغيره، وأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار وحفاظ السنن التي عليها مدار الشرع رضي الله عنهم أجمعين" [تبيين كذب المفتري/ ص103].

والإمام أبو جعفر الطحاوي عندما كتب عقيدة المشهورة [العقيدة الطحاوية] وهي تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة، وافقه الأشعري على جميع ما جاء فيها إلا في ثلاث مسائل فرعية لا يترتب عليها تبديع ولا تكفير؛ قال الإمام تقي الدين السبكي: "ما تضمنته عقيدة الطحاوي هو ما يعتقده الأشعري لا يخالفه إلا في ثلاث مسائل" [طبقات الشافعية الكبرى 3/ 377].

وقد كان ظهور الإمام أبو الحسن الأشعري في العراق مقارناً بظهور إمامين كبيرين من أئمة أهل السنة في علم العقائد، وهما الإمام أبو منصور الماتُريدي (ت 333هـ) في سمرقند، والإمام أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ) في مصر، فهؤلاء الأعلام الثلاثة لم يجلسوا في مجلس واحد، ولم يأخذوا من شيخ واحد، وجاءت آراؤهم متفقة في الغالب خاصة فيما يتعلق بأصول الاعتقاد، والخلافات التي بينهم خلافات فرعية، وبعضها خلافات لفظية لا يترتب عليها أثر حقيقي.

ما هي جهود علماء الأشاعرة في العناية بالقرآن الكريم؟

- أسانيد القراءات متصلة بنقل علماء القراءات من الأشاعرة وغيرهم: ومن أبرز هؤلاء الأعلام من الأشاعرة: الإمام أبو عمرو الداني صاحب [التيسير في القراءات السبع] والذي جمع فيه الطرق الصحيحة من القراءات السبعة المتواترة، والإمام أبو محمد القاسم الشاطبي صاحب [الشاطبية في القراءات السبع] وهو أشهر نظم في علم القراءات، والمقرئ أبو الحسن الداراني، والإمام علم الدين السخاوي، والمقرئ ابن المعلم القرشي، والمقرئ أبو الحسن علي الهاشمي الشافعي، والإمام أبو الخير ابن الجزري صاحب [طيبة النشر] والذي جمع فيه الطرق الصحيحة من القراءات العشر، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والعلامة منصور الطبلاوي، والمقرئ أحمد الحلواني، وغيرهم الكثير.

- من أبرز كتب التفسير التي كتبها علماء الأشاعرة: "لطائف الإشارات" للقشيري، و"التفسير الوسيط" للواحدي، و"معالم التنزيل في تفسير القرآن" للبغوي، و"المحرر الوجيز" لابن عطية الأندلسي، و"التفسير الكبير" للرازي، و"أنوار التنزيل" للبيضاوي، و"التسهيل لعلوم التنزيل" لابن جزي الغرناطي، و"البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسي، و"الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" للسمين الحلبي، و"نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي، و"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" للسيوطي، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور، و"صفوة التفاسير" للصابوني، وغير ذلك من الكتب.

- من أبرز جهود علماء الأشاعرة في علوم القرآن: "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز" لأبي شامة المقدسي، و"البرهان في علوم القرآن" للزركشي، و"الاستغناء في علوم القرآن" لأبي بكر الإدفوي، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي، و"الفوز الكبير في أصول التفسير" للإمام الدهلوي، و"مناهل العرفان" للزرقاني، و" المدخل إلى القرآن الكريم" للدكتور محمد عبد الله دراز، و"إتقان البرهان" للدكتور فضل عباس، و"علوم القرآن الكريم" للدكتور نور الدين العتر، وغير ذلك من الكتب.

ما هي جهود علماء الأشاعرة في العناية بالسنة النبوية؟

- أسانيد كتب الحديث الشريف متصلة بنقل علماء الحديث من الأشاعرة وغيرهم: ومن أبرز هؤلاء الأعلام من الأشاعرة: الإمام أبو ذر الهروي وروايته لصحيح البخاري أصح الروايات، والإمام أبو زيد المروزي سمع صحيح البخاري من تلميذه الفربري وروى عنه وروايته من أجل روايات الصحيح، والإمام أبو نعيم الأصفهاني، والإمام الخطيب البغدادي، والإمام ابن العربي، والقاضي عياض، والإمام ابن الصلاح، والإمام النووي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ المنذري، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والحافظ السخاوي، والحافظ السيوطي، وغيرهم الكثير.

- من أبرز كبار أئمة الحديث الأشاعرة الذين كتبوا في عصر التصنيف والترتيب للسنة النبوية: الإمام ابن حبان البُستي صاحب "صحيح ابن حبان"، والإمام أبي بكر الإسماعيلي – وهو من طلاب الإمام الأشعري - صاحب "المستخرج على صحيح البخاري"، والإمام أبي الحسن الدارقطني صاحب "العلل"، والإمام أبي عبدالله الحليمي صاحب "المنهاج في شعب الإيمان"، والإمام الحاكم النيسابوري صاحب "المستدرك على الصحيحين"، والإمام أبي نعيم الأصفهاني صاحب "المستخرج على صحيح مسلم"، والإمام أبي بكر البيهقي صاحب "السنن الكبرى"، وغيرهم.

- من أبرز شراح الكتب الستة من علماء الأشاعرة:  الإمام الخطابي صاحب "أعلام السنن شرح صحيح البخاري" و"معالم السنن شرح سنن أبي داود"، والإمام ابن بطال المالكي صاحب "شرح صحيح البخاري"، والإمام أبي بكر ابن العربي صاحب "عارضة الأحوذي في شرح الترمذي"، والقاضي عياض صاحب "إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم"، والإمام النووي صاحب "المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج"، والإمام زين الدين ابن المنير صاحب "المتواري على أبواب البخاري"، والإمام شمس الدين الكرماني صاحب "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري"، والإمام ابن حجر العسقلاني صاحب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، والإمام شهاب الدين القسطلاني صاحب "إرشاد الساري إلى صحيح البخاري"، والإمام السيوطي  صاحب " الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" و"مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجه"، وغيرهم الكثير.

- من أبرز جهود علماء الأشاعرة في علوم الحديث: "معرفة علوم الحديث" للحاكم النيسابوري، و"الكفاية في علوم الرواية" للخطيب البغدادي، و"الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع" للقاضي عياض، و"مقدمة ابن الصلاح" في علوم الحديث، و"التقريب والتيسير" للإمام النووي، و"النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي"، وألفية العراقي في الحديث، و"التقييد والإيضاح على مقدمة ابن الصلاح" للحافظ العراقي، و"نخبة الفكر" وشرحها "نزهة النظر" للحافظ ابن حجر العسقلاني، و"النكت على كتاب ابن الصلاح" للحافظ ابن حجر، و"فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" للحافظ السخاوي، و"تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي" للحافظ السيوطي، وألفية السيوطي في الحديث، وغير ذلك من الكتب.

هل رجع الإمام الأشعري عن مذهبه قبل وفاته؟

لم يثبت رجوع الإمام أبو الحسن الأشعري عن مذهبه الذي تحول إليه بعد أن كان معتزلياً، ولم ينهَ عن الخوض في علم الكلام، ولو ثبت مثل ذلك لنقله طلابه ومن جاء بعدهم – كالعلماء المحققين الذين اهتموا بجمع آراء الإمام الأشعري كابن فورك والبيهقي وابن عساكر وغيرهما– كما فعل الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه من العراق إلى مصر ونهى عن رواية القول القديم عنه، ولو ثبت تحول الأشعري عن مذهبه لذكره المؤرخون الذين ترجموا لحياة الإمام مثل الخطيب البغدادي [تاريخ بغداد 13/ 160]، وابن خلكان وفيات الأعيان 3/284]، وابن خلدون [مقدمة ابن خلدون/ ص853]، والذهبي [سير أعلام النبلاء 15/ 89]، وابن فرحون [الديباج المذهب/ ص193]، واليافعي مرآة الجنان 2/ 186]، وغيرهم.

وقد قام أحد الباحثين – وهو الشيخ محمد صالح الغرسي – بالمقارنة بين كلام الإمام الأشعري في العقائد في كتبه، ليصل إلى نتيجة أن جميع كتبه متفقة في العقائد ليس بينها اختلاف في العقائد، وأن الاختلاف بين كتب الأشعري هو في أسلوب الاستدلال وفي طريقة العرض بين الشمولية أو التركيز "انظر: [عقيدة الأشعري أين هي من عقيدة السلف/ ص33- 86].

وأما ما صرح به الأشعري من إثبات صفات اليدين والوجه؛ فقد نقل عنه ذلك ابن فورك في [مجرد مقالات الأشعري/ ص40] فقال: "فأما ما يثبت من طريق الخبر: فلا يُنكِر –أي الإمام الأشعري- أن يرد الخبر بإثبات صفات له تُعتقد خبراً، وتطلق ألفاظها سمعاً، وتحقق معانيها على حسب ما يليق بالموصوف بها، كاليدين والوجه والجنب والعين؛ لأنها فينا جوارح وأدوات، وفي وصفه نعوت وصفات، لما استحال عليه التركيب والتأليف وأن يوصف بالجوارح والأدوات" فقد أثبت هذه الصفات، ونفى كونها أعضاء وجوارح؛ لأن الأعضاء والجوارح للأجسام، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، ولذلك نقلها عنه الإمام ابن فورك في [مجرد مقالات الأشعري] وابن عساكر في [تبيين كذب المفتري]، وغيرهما، وتبناها الإمام الباقلاني في أحد قوليه، والإمام البيهقي، والإمام ابن عساكر، والإمام ابن حجر العسقلاني، وعدد من علماء الأشاعرة.

وهذا لا يتنافى مع الأقوال الأخرى في المذهب الأشعري؛ لأن الأقوال الثلاثة (الإثبات والتفويض والتأويل) متفقة على تنزيه الله تعالى عن التشبيه والتجسيم، ومتفقة على أن المعنى الحسي –بمعنى العضو والجارحة- منتفٍ قطعاً عن الصفات الخبرية (مثل الوجه واليد)، ولكنها تسمى صفات سمعية على قول الإثبات، وعلى قول التفويض لها معنى إجمالي من خلال سياق الآية، ولكن المعنى التفصيلي للفظ لا يُجزم به بل يُرد علمه إلى الله تعالى؛ لعدم ورود معناه التفصيلي في الشرع فيُتوقف فيه، وعلى قول التأويل ترجع معانيها إلى صفات أخرى تحتملها اللغة ولا تصادم أصول الشرع مثل الوجه يرجع إلى الذات واليد ترجع إلى القدرة، فالاختلاف في هذه المسألة اختلاف فرعي.

قال الإمام النفراوي المالكي: "‌ولفظ ‌الاستواء من جملة المتشابه كاليد والوجه والعين والأصابع ونحو ذلك مما ظاهره مستحيل على الباري سبحانه، ولا يعلم معناه على القطع إلا الله سبحانه وتعالى، وأما العلماء فقد اتفق السلف والخلف على وجوب اعتقاد حقيقة وروده على وجوب تنزيه الباري عن ظاهره المستحيل، واختلفوا بعد ذلك على ثلاث طرق: 

طريق أبي الحسن الأشعري إمام هذا الفن أنها أسماء لصفات قائمة بذاته تعالى زائدة على صفات المعاني الثمانية أو السبعة التي هي العلم والقدرة والإدراك على القول به ونحو ذلك من بقيتها، والدليل عنده على ثبوتها السمع؛ لورودها إما في القرآن أو السنة، لذلك تسمى على مذهبه صفات سمعية.

وطريق السلف كابن شهاب والإمام مالك ومن وافقهما من السلف الصالح تمنع تأويلها عن التفصيل والتعيين، وقال أهلها انقطع بأن المستحيل غير مراد، ونعتقد أن له تعالى استواء ويدا وغير ذلك مما ورد به الشرع لا يعلم معناه على التفصيل إلا الله، وكذلك تسمى المعنوية.

وطريق الخلف تؤول المتشابه على وجه التفصيل قصدا للإيضاح ولذلك تسمى المؤولة، فأولوا الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة، والعين بالبصر، والأصابع بإرادات القلب" انتهى من [الفواكه الدواني 1/ 51].

وبعض العلماء يجعلون طريقة الإثبات وطريقة التفويض طريقة واحدة كالإمام البيهقي والإمام النووي؛ باعتبار أن كلاً منهما يفوض معناها إلى الله تعالى، وبعضهم كالإمام النفراوي والعلامة محمد الخضر الشنقيطي يفرقون بينهما؛ لأن طريقة الإثبات تسميها صفات سمعية، وطريقة التفويض لا تسميها صفات.

هل تراجع كبار علماء الأشاعرة كإمام الحرمين والغزالي عن مذهبهم قبل وفاتهم؟

اشتغل كثير من علماء الأشاعرة في الرد على المبتدعة والملاحدة، وتعمقوا في دراسة المناهج الفلسفية، وبينوا زيف أصولهم الباطلة، وردوا الشبهات، وقاموا بواجبهم في الدفاع الفكري عن عقيدة أهل السنة، ثم لما تقدم عمرهم تركوا التوسع في مناهج الاستدلال العقلي والردود على الخصوم، واقتصروا على أصل الاعتقاد الذي يدينون الله به، وترك الخوض في التأويل إلى التفويض، وكلاهما قولان معتبران عند الأشاعرة؛ قال الإمام السبكي: "للأشاعرة قولان مشهوران في إثبات الصفات: هل تمر على ظاهرها مع اعتقاد التنزيه أو تؤول، والقول بالإمرار مع اعتقاد التنزيه هو المعزو إلى السلف وهو اختيار الإمام في الرسالة النظامية وفي مواضع من كلامه، فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل إلى التفويض، ولا إنكار في هذا ولا في مقابله؛ فإنها مسألة اجتهادية أعني مسألة التأويل أو التفويض" [طبقات الشافعية الكبرى 5/ 191].

فدراسة المناهج الكلامية والفلسفية ومناقشة شبهات الخصوم يعتبر من العلوم الضرورية التي لا تستغني الأمة عنها، والمشتغلون بذلك ينالون أجراً عند الله تعالى على قدر نيتهم، ولكن هذه الأمور لا تزيد الإيمان، بل يزيد الإيمان بالعمل الصالح وتخلية القلب وتحليته بذكر الله تعالى، ولهذا ترك بعض أئمة الأشاعرة – كإمام الحرمين والغزالي– الذين خاضوا في علم الكلام والفلسفة الاشتغال بهما، وأقبلوا على تطهير قلوبهم وتنقيتها مقتصرين على أصل العقيدة التي كانوا عليه، ومن يطالع كتاب [المنقذ من الضلال] للإمام الغزالي يجد هذه المعاني في كتابه، فقد روى الإمام الغزالي المراحل التي مر بها في حياته والعلوم التي اشتغل بها حتى وجد قلبه عند أهل الصلاح والتزكية، دون أن يغير ذلك من عقيدته أو يذم من عقيدة الأشاعرة شيئاً. 

هل القول بالتأويل في باب الصفات بدعة لم يرد عن السلف الصالح؟

اتفق أهل السنة والجماعة من السلف والخلف أن الأصل في النصوص المتشابهة في حق الله تعالى –وهي ما أوهم ظاهرها تجسيما وتشبيها في حق الله تعالى– نفي المعنى الظاهر الحقيقي منها، ثم اختلفوا بعد ذلك في منهجية التعامل مع النصوص المتشابهات على ثلاثة أقوال: التفويض والإثبات والتأويل، فالتفويض مذهب جمهور السلف كما نص الإمام النووي [شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 19]، والإمام ابن حجر العسقلاني [انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3/ 30]، والإثبات قول الإمام الأعظم أبو حنيفة والأشعري والباقلاني والبيهقي وابن عساكر وابن حجر العسقلاني، والتأويل وهو مذهب بعض السلف وجمهور الخلف. 

وقد نقل النووي عن الإمامين مالك والأوزاعي القول بالتأويل في حديث النزول بنزول رحمته وأمره وملائكته [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 36]، ونقل الإمام ابن حمدان الحنبلي عن الإمام أحمد القول في تأويل {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] بمجيء ثوابه [انظر: نهاية المبتدئين في أصول الدين ص/32- 35].

وروي عن الإمام الشافعي في تفسير قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أنه قال: "فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه" [الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 106].

وروي التأويل عن الإمام البخاري؛ فقد قال في آية "{كل شيء هالك إلا وجهه}: "إلا ملكه، ويقال: إلا ما أريد به وجه الله" [انظر: صحيح البخاري 6/ 112]، وروي عنه أنه أوّل الضحك في حديث (يضحك الله إلى رجلين) بالرحمة [انظر: الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 401].

وروي القول بالتأويل كذلك عن إمام المفسرين عبد الله بن عباس ترجمان القرآن، فقد روي عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي بقوة، وروي مثل ذلك عن مجاهد وسفيان [انظر: تفسير الطبري 22/ 438]، وروي عن سيدنا ابن عباس كذلك في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} كرسيه علمه، وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير [انظر تفسير الطبري 5/ 397].

ومن يطلع على [تفسير جامع البيان] للإمام أبي جعفر الطبري يجد العديد من التأويلات التي اختارها، ومن ذلك أنه قال في تفسير قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، قال: قبلة الله [انظر: تفسير الطبري 2/ 535]، وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قال: "علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال" [تفسير الطبري 1/ 430]، وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] قال: " بمرأى مني ومحبة وإرادة" [تفسير الطبري 18/ 304].

وقد جمع الإمام البيهقي في كتابيه [الأسماء والصفات] و[الاعتقاد] كثيراً من الأقوال المأثورة عن السلف في التأويل، وقال: "وأصحاب الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله، ثم إنهم على قسمين: منهم من قبله ‌وآمن ‌به ولم يؤوله ووكل علمه إلى الله – تفويض المعنى - ونفى الكيفية والتشبيه عنه، ومنهم من قبله ‌وآمن ‌به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد – التأويل –" [الاعتقاد/ ص117].

وبناء على ذلك فقد استقر القول عند أهل السنة أن القول بالتأويل قول معتبر إذا تم مراعاة شروط التأويل وهي: أن يكون التأويل مبنياً على دليل صحيح، وأن يكون موافقاً لأساليب اللغة العربية، وأن يكون مناسباً لسياق الآية، وألا يتعارض مع أصول الشرع؛ قال الإمام النووي: "والقول الثاني وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تُتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع" [شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 19].

هل يعتبر القول بالتأويل تعطيلاً لصفات الله تعالى؟

التعطيل هو نفي الخالق سبحانه وتعالى أو نفي أسماء الله أو صفاته الذي ثبتت له سبحانه وتعالى؛ فصفات الكمال التي ثبتت لله تعالى بالكتاب والسنة لا يجوز نفيها، كما لا يجوز اعتقاد التشبيه، فقدرة الله تعالى ليست كقدرتنا، وعلم الله تعالى ليس كعلمنا، فالاشتراك بين صفات الخالق وصفات المخلوق هو الاسم فقط، وأما المسمى والمضمون فيختلفان بشكل كبير؛ لأن قدرة العبد محدودة ناقصة تحتاج إلى آلة، وقدرة الله تعالى كاملة لا تحتاج إلى شيء.

قال الإمام الأشعري: "وأجمعوا –أي السلف الصالح– على إثبات حياة الله عز وجل لم يزل بها حياً، وعلماً لم يزل به عالماً، وقدرة لم يزل بها قادراً، وكلاماً لم يزل به متكلماً، وإرادة لم يزل بها مريداً، وسمعاً وبصراً لم يزل به سميعاً بصيراً" [رسالة إلى أهل الثغر/ ص121].

وأما ما أضيف إلى الله تعالى مما يوهم ظاهره التشبيه كاليد والوجه، فيجب نفي المعنى الحسي الذي يوهم التجسيم أو التشبيه –كنفي معنى العضو والجزء- في حق الله تعالى، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة، ثم بعد ذلك فقد اختلفوا في كيفية التعامل معها على ثلاثة أقوال كما تقدم؛ وسبب الاختلاف أنه لم يرد عن الشرع تصريح بأن هذه صفات لله تعالى، كما أن اللغة تدل على أن اليد والوجه ونحوهما أجزاء وليست صفات؛ لأن الصفة معنى قائم بالموصوف كالرحمة والقدرة، ولذلك اختلف أهل السنة في كيفية التعامل مع هذه الصفات الخبرية، ولا يخفى أن هذا الاختلاف قائم على اجتهادات معتبرة، وأن كلاً من القول بالتأويل والتفويض والإثبات ثابت عن السلف الصالح كما تقدم.

قال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: "فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية، وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات".

وينبغي التنبه إلى أن البعض يطلقون مصطلح المعطلة على أهل السنة والجماعة مريدين بذلك نفي التنزيه وإثبات التشبيه بين الخالق والمخلوق، فيسمون التنزيه بالتعطيل، وهذا الفهم باطل عند أهل السنة والجماعة، والله عز وجل هو الذي نفى عن نفسه أي مشابهة بينه وبين الخلق؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وأما التعطيل الممنوع فهو نفي صفات الله تعالى الذي ثبتت بالأدلة النقلية والعقلية كالقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر وغيرها.

ما حجية السنة النبوية في العقائد عند الأشاعرة؟

السنة النبوية كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وقد قسم العلماء السنة النبوية من حيث وصولها إلينا إلى متواتر وآحاد، وفيما يأتي تفصيل ذلك:

أولاً: السنة المتواترة: وهو الحديث الذي رواه رواة كثيرون بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب، مثل أحاديث معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الأحاديث مقطوع بصحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك فيحتج بها في إثبات أصول العقائد الإسلامية وفروعها إذا كانت دلالتها قطعية.

ومعنى أن ثبوتها قطعي أنها لا تقبل الاختلاف في ثبوتها، ومعنى الدلالة القطعية ألا تحتمل إلا معنىً واحداً، ولا تقبل التأويل ولا الاختلاف في الرأي، ومعنى الدلالة الظنية ما يحتمل أكثر من معنى، ويقبل التأويل والاختلاف في تفسيره.

ثانياً: سنة الآحاد التي رواها راوٍ أو راويين في كل طبقة من طبقات السند ولم تصل إلى حد التواتر، وحكمها أنها إذا ثبتت صحتها كانت حجة ولزم قبولها وإفادة الظن؛ وذلك لأن الحكم على عدالة الراوي وضبطه واتصال السند هو حكم ظني، ومعنى أنه يفيد الظن أنه يقبل الاختلاف في ثبوته، ولهذا اختلف علماء الحديث فيما بينهم في تصحيح كثير من الأحاديث أو تضعيفها، كما اختلفوا في توثيق كثير من الرواة أو تضعيفهم، فالحكم على حديث الآحاد بأنه يفيد الظن هو من جهة رواته، وليس من جهة كونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل ما ثبت يقيناً أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفيد القطع؛ قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

قال الحافظ ابن عبد البر: "والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا" [التمهيد 1/ 7].

وبناء على ذلك نقول إن السنة النبوية أصل وحجة في إثبات العقيدة الإسلامية، فما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر حقاً يجب قبوله إذا تواتر أو ثبت صحته، ولكن جمهور العلماء قرروا أن حديث الآحاد الصحيح يفيد الظن من جهة رواته الذين رووه حتى وصل إلينا؛ لأن الحكم بعدالتهم وضبطهم هو حكم ظني، فاحتاط العلماء في المسائل العقدية التي جاءت بها أحاديث الآحاد الصحيحة –ولم يأت بها قرآن أو سنة متواترة– من فروع العقيدة التي يلزم قبولها ويسوغ فيها الاختلاف ولا يترتب على إنكارها تكفير، وجعلوا المسائل قطعية الدلالة التي جاءت في القرآن والسنة المتواترة أصول العقائد التي لا يجوز الاختلاف فيها.

ومن الأمثلة على فروع العقائد التي يسوغ فيها الاختلاف أن الصحابة اختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يوم الإسراء والمعراج، مع كون المسألة قد ورد فيها بعض الأحاديث، ومع ذلك فلم يكفر بعضهم بعضاً، وللتوسع في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يراجع [شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 5].

ما حكم الخوض في علم الكلام؟ وكيف نفهم نهي السلف عن الخوض في علم الكلام؟

علم الكلام هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها [انظر: شرح المواقف للجرجاني 1/ 31].

ولم يشتغل الصحابة والتابعون بعلم الكلام؛ بسبب صفاء العقائد ونقائها ببركة صحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرب عهد التابعين من عهد الأنور عليه الصلاة والسلام، ولقلة الاختلافات في تلك الأزمنة المباركة، فلم تكن أصحاب الأهواء والبدع والأفكار الدخيلة قد انتشرت بين الأمة الإسلامية، وكان موقف أئمتنا من السلف الصالح حث الناس على العمل والابتعاد عن الجدل والمراء مع أهل الأهواء، وقد بين الحافظ ابن عساكر أن نهي الإمام الشافعي عن علم الكلام إنما عنى به الكلام البدعي المخالف للكتاب والسنة بدليل أن الشافعي ناظر أحد رؤوس المبتدعة في عصره –وهو حفص الفرد– في الإيمان وخلق القرآن [انظر: تبيين كذب المفتري/ ص337]، وقد أجاب الحافظ البيهقي عن كلام الإمام أبي يوسف والإمام مالك في النهي عن تعلم علم الكلام فقال: "وإنما يريد والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد" [تبيين كذب المفتري/ ص334].

وعندما ظهرت الفتن والأزمات الفكرية التي عصفت بالأمة الإسلامية برزت الحاجة إلى ظهور علم مستقل يعنى بإثبات العقائد الدينية بالحجج اليقينية ودفع الشبه ظهر عدد من الأئمة الأعلام، وكان من أوائل من اشتغل بذلك الإمام أبو حنيفة والإمام الحارث المحاسبي والإمام الكرابيسي تلميذ الإمام الشافعي؛ قال الإمام أبو حنيفة: "وقد ابتلينا بمن يطعن علينا، ويستحل الدماء منا، فلا يسعنا أن لا نعلم من المخطئ منا ومن المصيب، وأن نذب عن أنفسنا وحرمنا، فمثل صحابة النبي الكريم كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلا يتكلفون السلاح، ونحن قد ابتلينا بمن يقاتلنا فلا بد لنا من السلاح" [العالم والمتعلم/ ص9].

ولذلك فقد نص الفقهاء على أن علم الكلام من فروض الكفايات التي تأثم الأمة بتركها؛ قال الإمام النووي: "البدعة خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين" [شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 154]، فمراد النووي بالبدعة الواجبة أن هذا العلم وإن لم يشتغل به السلف الصالح فحكمه الوجوب الكفائي لاشتداد حاجة الأمة إليه.

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين