الحكم الشرعي الاجتهادي بين التصويب والتخطئة

الكاتب : المفتي الدكتور محمد أبو غزلة

أضيف بتاريخ : 15-10-2024


الحكم الشرعي الاجتهادي بين التصويب والتخطئة

يهدف هذا المقال لبيان حدود الصواب والخطأ في الاجتهاد الشرعي، حيث يزعم بعض الحداثيين أو النافين لفكرة المذهبية الفقهية القائمة على الاجتهاد في إدراك الأحكام الشرعية، أن كل الناس قادرون على النظر المباشر في الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام الشرعية، وأن التقليد في الأحكام الشرعية الاجتهادية هو من باب السلطة الكهنوتية في الإسلام. لذلك فقد ادّعوا بأنّ الاجتهاد متاح للجميع، كائناً من كان ذلك المدعي للاجتهاد، وبغضّ النظر عن ملكته الاجتهادية، وقدراته العلمية الشرعية، باعتبار أن باب الاجتهاد مفتوح، وأن الكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بهذا يعملون على تدمير بنية الاجتهاد في إدراك الأحكام الشرعية، بتفتيت الضوابط التي تؤهل من يتصدى لأمر الفتوى في العصر الحديث، ليصبح الاجتهاد مشاعاً لكل من هبّ ودبّ.

والاجتهاد هو استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي[1]، والأحكام الشرعية تنقسم إلى عقلية ونقلية[2]: أما العقلي كحدوث العالم وإثبات الصانع، وإثبات النبوة، وغير ذلك من أصول الديانات، وأما الشرعي فضربان[3]: ضرب يسوغ فيه الاجتهاد، وضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد، فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين؛ أحدهما: القطعيات في الدين، وما علم منه بالضرورة؛ كالصلاة المفروضة، والزكاة الواجبة، وتحريم الزنا واللواط وشرب الخمر وغير ذلك؛ فمنكرها وجاحدها كافر بالإجماع بشروطه المفصلة في كتب الفقه؛ لأنّ ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة؛ والثاني: ما لم يعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة؛ كالأحكام التي تثبت بإجماع الصحابة وفقهاء العصور، ولكنها لم تعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة، فالحق من ذلك في قول واحد؛ وهو ما أجمع الناس عليه، فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم به فهو فاسق، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد كالمسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين أو أكثر[4].

وبناء على ما سبق، فقد فرَّق العلماء بين الاجتهاد في الفروع الفقهية، وبين الاجتهاد في الفروع الكلامية التي هي العقائد المسماة بالأحكام العقلية، وعلى هذا تبين أن ما يسوغ فيه الاجتهاد مما سبق هو ما لا يقطع به، فيحصل فيه خلاف في الرأي.

وقد تباينت أنظار العلماء في الحكم على الاجتهاد في هذا النوع الأخير من المسائل، هل كل مجتهد فيها مصيب، أم أن هناك مخطئاً ومصيباً؟ مع اتفاق الجميع على أنّ المجتهد الذي يُعتدّ برأيه هو من ملك ناصية الاجتهاد، يقول الإمام الجويني رحمه الله تعالى: "والمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد؛ فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجرٌ"[5]، وأصل هذا القول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر)[6].

ولعل اختلاف أقوال الناقلين عن الأئمة الأربعة في هذه المسألة، الذي بُني على وجود الخلاف عندهم في هذا هذه المسالة ابتداءً، ولذلك انقسم العلماء فيها إلى فريقين، سمي أحدهما بالمصوبة، والآخر بالمخطئة، ويبين الإمام الجويني أن حجة المخطئة هي قوله صلى الله عليه وسلم: (من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد) متفق عليه[7]، وتالياً أقوال كل فريق:

أولاً: المصوبة: قالوا إنّ كل مجتهد في الظنيات مُصيب ابتداءً، بناء على أنه ليس لله تعالى في المسألة حكم معين، وإنما هو ما يتوصل إليه نظر المجتهد بغلبة ظنه، وقد قال بهذا الرأي الإمام الغزالي[8]، وروي أنه ظاهر قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، وهو مذهب المعتزلة وأبي الحسن الأشعري كذلك[9]، يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "وقد اختلف الناس فيها، واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة، وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وقال قوم: المصيب واحد. واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد؟ فالذي ذهب إليه محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن، بل الحكم يتبع الظن، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه، وهو المختار"[10].

وعليه؛ فإن أهل التصويب يرون المجتهد مصيباً في كل حال، بل إن مؤدى اجتهاده هو مراد الله تعالى في الحكم.

ثانياً: المخطئة: قالوا إن في الحادثة حكماً معيناً لله تعالى، فمن أصابه فله أجران، ومن أخطأه مخطئ لم يأثم، وهو قول عبد الله بن المبارك[11]، والشافعي رحمهما الله تعالى[12] وجمع غفير من العلماء، يقول الشيرازي رحمه الله تعالى: "وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد، وهو المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين وأكثر، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: الحق من ذلك كله في واحد وما عداه باطل، إلا أن الإثم موضوع عن المخطئ فيه، وذكر هذا القائل إن هذا هو مذهب الشافعي رحمه الله، لا قول له غيره"[13].

وفي مسألة تأثيم المجتهد من عدمه؛ فقد روي عن ابن المبارك والإمام الشافعي وجماهير أهل العلم رفع الإثم عن المخطئ مع عدم التقصير[14]، لكن هناك من صرح بأن المخطئ آثم، فقد حكى القاضي أبو بكر الأشعري عن أبي علي بن أبي هريرة إنه كان يقول: "إن الحق من هذه الأقاويل في واحد مقطوع به عند الله تعالى، وأن مخطئه مأثوم، والحكم بخلافه منصوص، وهو قول الأصم، وابن علية، وبشر المريسي" [15].

وعليه؛ فإن المعتمد هو قول الجمهور بأن المجتهد إما مصيب وإما مخطئ، والإثم في حال الخطأ مرفوع عنه.

الاجتهاد في العقائد والأصول التي مبناها على الأخبار:

أجمع أئمة المذاهب من أهل السنة والجماعة وغيرهم من المعتزلة بأن الاجتهاد في الأمور العقلية يختلف عن الاجتهاد في الأمور الشرعية، فالمجتهد في الأمور العقلية يكون إما مصيباً أو مخطئاً، ولا مجال للقول بإصابتهما، بل يكون المخطئ آثماً، يقول الجويني: "ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب، ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب"[16].

ويوضح الإمام الشيرازي فيما يمنع فيه الاجتهاد بقوله: "فأما العقلي: فهو كحدوث العالم وإثبات الصانع وإثبات النبوة وغير ذلك من أصول الديانات، والحق في هذه المسائل في واحد وما عداه باطل"[17].

أما القول بأن المجتهد في المسائل الكلامية كلاهما مصيب، قياساً على في الفروع الفقهية، فهذا قول شاذّ لم يقل به غير الجاحظ والعنبري، لذلك يقول الإسنوي: "المعروف أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً، بل الحق فيها واحد، فمن أصابه أصاب، ومن فقده أخطأ وأثم، وقال العنبري والجاحظ: مجتهد فيها مصيب أي: لا إثم عليه، وهما محجوجان بالإجماع كما نقله الآمدي"[18].

ويورد الشيرازي رحمه الله تعالى تعليلات أوردها البعض لما ذهب إليه العنبري، فقال: "وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد في الأصول مصيب، ومن الناس من حمل هذا القول منه على أنه إنما أراد في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة، ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل؛ كالرؤية وخلق الأفعال والتجسيم وما أشبه ذلك، دون ما يرجع إلى الاختلاف بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان، والدليل على فساد قوله هو أن هذه الأقوال المخالفة للحق من التجسيم ونفي الصفات لا يجوز ورود الشرع بها، فلا يجوز أن يكون المخالف فيها مصيبا؛ كالقول بالتثليث وتكذيب الرسل" [19].

أما أبو الحسين البصري المعتزلي فقال: "اعْلَم أَن المعتقدين للشَّيْء باعتقادات متنافية لَا يجوز كَونهم بأجمعهم مصيبين؛ كالمعتقدين أَن الله سُبْحَانَهُ يُرى فِي بعض الْحَالَات، والمعتقدين أَنه لَا يُرى بِحَال، وَقَالَ عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري إِن الْمُجْتَهدين فِي الأصول من أهل الْقبْلَة كالموحدة والمشبهة، وَأهل الْعدْل والقدرية مصيبون، وَيَنْبَغِي أَن نبين معنى قَوْلنَا صَوَاب، ثمَّ نبين أَنه لَا يُمكن اجْتِمَاع الاعتقادات المتنافية فِيهِ"[20].

وعليه؛ فإن المجتهد في المسائل الكلامية أو القضايا العقلية إما مصيب وإما مخطئ، والمخطئ فيها آثم بلا خلاف، ولا يعتدّ بقول الجاحظ والعنبريّ، فقد خالفا الإجماع.

الخلاصة والنتائج

من خلال ما سبق يتبين:

1- أن السعة في قبول الاجتهادات المعتبرة تتعلق بمن يملك آلة الاجتهاد وهو من يعتد برأيه.

2- أن الاجتهاد المعتبر هو ما بذل فيه المجتهد وسعه وطاقته للوصول إلى الحكم.

3- أنه لا يصح الاجتهاد في كل ما ورد به قاطع من قواطع الأدلة، أو المسائل العقلية والأصولية الإخبارية.

4- أن ما يسوغ فيه الاجتهاد ما كان من المسائل التي يجوز فيها الخلاف مما كانت أدلته ظنية، ومما اختلف في دلالتها أصحاب الفنّ من أهل الاجتهاد المعتبرين.

5- اختلف العلماء في مسألة هل كل مجتهد مصيب؟ فمنهم من قال بأن المجتهد إما مصيب مأجور، ومخطئ غير مأثوم، وأن من أثَّم المخطئ لم يعتدّ برأيه بين العلماء، واتفقوا على أن المخطئ في المسائل العقلية آثم بلا خلاف.

6- بطلان مقولة الكهنوت الديني في اتباع المذاهب الفقهية المعتبرة؛ لأنّ فيها وقاية للفتوى من التضارب والتضادّ والاختلاف والهدم. حيث إن اتباع المذاهب الفقهية المعتبرة ليس كهنوتاً في الفقه، بل هو رجوع إلى المختصين في الفقه، ومن مظاهر التقدم الحضاري في الإسلام، حيث جعل للتخصص أهمية بالغة ومحترمة، يقول الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].

8- البعد عن التكفير والتفسيق بمجرد المخالفة؛ لأنّ ما جوز العلماء فيه الاختلاف لا يجوز استعداء المخالف أو وصفه بما يخرجه من الملة أو وضع لقدره أو مكانته العلمية أو الاجتماعية أو الدينية.

 


[1] -إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهادـ محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182هـ)، تحقيق: صلاح الدين مقبول أحمد، الناشر: الدار السلفية – الكويت، 1405هـ.ص8.

[2] - اللمع في أصول الفقه للشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (المتوفى 476هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 2003 م - 1424هـ: (129)، بتصرف.

[3] - اللمع في أصول الفقه للشيرازي، ص (129)، بتصرف.

[4] - اللمع في أصول الفقه للشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (المتوفى 476هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 2003 م - 1424هـ: (ص129-130)، بتصرف.

[5] - شرح الورقات في أصول الفقه، جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي (المتوفى: 864هـ)، قدَّم له وحققه وعلَّق عليه: الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة، ط1، الناشر: جامعة القدس، فلسطين، 1420 هـ - 1999م. ص (218).

[6] -رواه البخاري، صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، دار طوق النجاة، 1422هـ. ج9/ 108. ومسلم، صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت.  ج3/ 1342، رقم حديث (1716).

[7] - شرح الورقات في أصول الفقه، (ص218)، مرجع سابق.

[8] - المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، الناشر: دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ - 1993م، (ص: 352).

[9] -اللمع في أصول الفقه للشيرازي، (ص130)، مرجع سابق. وانظر: الفقيه والمتفقه، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ)، المحقق: عادل بن يوسف الغرازي، دار ابن الجوزي – السعودية، ط2، 1421هـ، (ج2 / 114).

[10] - المستصفى (ص: 352)، مرجع سابق.

[11] - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2 / 114)، مرجع سابق.

[12] - الرسالة، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ)، المحقق: أحمد شاكر، الناشر: مكتبه الحلبي، مصر، ط1، 1358هـ/1940م. ص494.

[13] -اللمع في أصول الفقه للشيرازي (ص130)، نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص: 399)، وانظر: الإبهاج في شرح المنهاج (3 / 257)، وانظر: المستصفى (ص: 352). وانظر: العدة في أصول الفقه (5 / 1554).

[14] - الرسالة، للإمام الشافعي، ص494. مرجع سابق

[15] -اللمع في أصول الفقه للشيرازي (ص130)، مرجع سابق.

[16] - شرح الورقات في أصول الفقه، (ص225). مرجع سابق.

[17] - اللمع في أصول الفقه للشيرازي (ص: 129)، مرجع سابق.

[18] - نهاية السول شرح منهاج الوصول، عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 772هـ)، ط1، الناشر: دار، الكتب العلمية -بيروت-لبنان، 1420هـ- 1999م. (ص: 399) :

[19] - اللمع في أصول الفقه للشيرازي (ص: 129)، مرجع سابق.

[20] - المعتمد في أصول الفقه، محمد بن علي الطيب أبو الحسين البَصْري المعتزلي (المتوفى: 436هـ)، المحقق: خليل الميس، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، 1403هـ، (ج2 / 398).