المَولِد ورسائلُ البِشْرِ والنصرِ

الكاتب : عطوفة الأمين العام الدكتور زيد الكيلاني

أضيف بتاريخ : 17-09-2024


المَولِد ورسائلُ البِشْرِ والنصرِ

تُشرِقُ علينا ذكرى مولدِ سيدِ الخَلْقِ صلى الله عليه وسلم مُحمَّلةً برسائل البِشْر والنصر... رسائل تملأ قلب المؤمن يقيناً وثقة وحسن ظن بالله أن النصر قريب، وأن اليسر قادم بعد العسر، وأن عطاء الكريم سبحانه وتعالى قريب من المحسنين.

فما علاقة مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العام - عام الفيل - بالبشارة؟ ما علاقة ذلك التاريخ بالأمل؟ ما دلالة ذلك التاريخ ونحن نرى اعتداء المعتدي... اعتداء المحتل الغاصب على أهلنا في غزة والقدس والضفة، ونرى محاولته تهويد المسجد الأقصى، ما دلالة المولد المبشِّرة وسط هذه الأحداث؟ 

وكيف يحمل لنا يوم المولد ذلك المعنى الذي يعيشه كل مؤمن وهو يتلو قوله سبحانه: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ‌يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5-6]. كيف نعيش مع مولد سيدنا رسول الله بنور قوله تعالى: ﴿‌وَذَكِّرْهُمْ ‌بِأَيَّامِ ‌الله﴾ [إبراهيم: 5]... أيام نصره لأوليائه... أيام قهره لأعدائه... أيام الفرج على الصابرين... أيام العطاء لمن ثبتوا على هذا الدين... 

وُلِدَ صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل... عام الهجوم على الكعبة، عام الظلم، عام الطغيان، عام الاعتداء... لينقلب كل ذلك الى عام المولد وإشراقة النور وبداية البِشْرِ الذي سيكون بعده النصر والعطاء.

بداية الأمر كان عام الفيل... العام الذي تحرك فيه (أبرهة) بالجيوش الجرارة بأسلحتهم المدمرة غير المعتادة في ذلك الوقت، قاصداً البيتَ الحرام الكعبةَ المشرفة؛ لأنها الرمزية الأخيرة التي تُذكِّرُ وتدلُّ على تلك الشعائر التي تلقّاها العرب كابراً عن كابر إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، هذا الـمَعْلَمُ الأخير المذكِّر بالتوحيد وبالشعائر... يريد (أبرهة) أن يدنسه ويطمسه ويهدمه؛ ليجتمع الناس حوله وتحت رايته، وليقطع التعلق بالكعبة وبالبقية الباقية من دين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

إذن رُسمت البدايات لتحسم النهايات أن يصبح ذلك عام هدم الكعبة وطمس المعالم وهدم آخر مُذَكِّرٍ بالتوحيد... ولنَعْقِد المقارنةَ الآن لنرى الحال كحال المحتل الغاصب اليوم الذي يستخدم أسلحته وبطشه قتلاً ودماراً ظانّاً أنه سيطرد أهل الأرض من أرضهم... سيسلبهم حقَّهم... سيطمس هويتهم... سيُهوِّد أقصاهم... سينتصر على معتقداتهم... سيحجب الحق من خلال ظلمه واعتدائه... هذه المقارنة بين الجيشين، وبين البدايتين، وبين التوهمين.

(أبرهة) ظن أنه قادر على الكعبة المشرفة... قادر أن ينهي آخر مَعْلَمٍ من معالم التوحيد... (أبرهة) كان عنده جيش جرار وسلاح غير معتاد، والمحتل اليوم عنده أسلحة فتاكة يعتدي بها على أهلنا، ويظن أنه باعتدائه قادر على سلبهم حقَّهم، وعلى طمس هويتهم، وعلى نزع عقيدتهم من قلوبهم... هذه المقاربة... هذا وجه الشبه في البدايات، وستكون النهايات والخاتمة واحدة بإذن من قال: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ ‌جُنْدَنَا ‌لَهُمُ ‌الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171-173].

نعود إلى (أبرهة) لنرى البشارة، ولنرى النتائج، ولنرى الثمرة... تخبرنا المصادر التاريخية محاولةَ بعض القبائل العربية التصدي لـ(أبرهة)، وتخبرنا المصادر ذاتها أن بعض العرب أخذ يدل (أبرهة) على أفضل طريق للوصول إلى الكعبة المشرفة؛ خيانة ليكسب شيئاً من ود (أبرهة)، كأبي رغال الذي أصبح مثلاً في الخيانة!

أما قبيلة قريش فقررت أن تدافع عن البيت بالطريقة التي تستطيعها بما يُسمى اليوم (حرب الشوارع)؛ بحيث تخرج إلى الجبال، وتهاجم جيش (أبرهة)، وتعود إلى الجبال... ووقف سيد مكة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم في وجه (أبرهة) مذكراً محذراً ليقول: للبيت رب يحميه. ثم توجه إلى الله: يا رب إن العبد يمنع رَحْلَهُ فامنعْ رحالكَ. 

ثم جاءت الأمداد المرسخة في قلوبنا أن الله حافظٌ دينه، ومُتِمُّ نوره؛ فأرسل الله الطير الأبابيل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ‌الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1-5].

ودُحِرَ (أبرهة)، ولم يتوقف الإمداد هنا، بل كان الأمر الإلهي أن يولَد سيدُ الخَلْقِ صلى الله عليه وسلم... رافعُ لواء التوحيد، دعوة سيدنا إبراهيم، الذي سيملأ الأرض عدلاً ونوراً... في نفس العام - عام الفيل - الذي كان المخطط أن يكون عامَ هدمِ الكعبة، فأصبح عامَ حفظِ الكعبة، وولادة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! 

حتى نعلم أن سنة الله في الكون، أن الفجر يأتي بعد أحلك الليل ظُلْمَة، وأنه مهما طال الظلم فإن نور الحق سيشرق: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ‌يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ولنعلم أن نَصْرَ الله وفَرَجَهُ لأهلنا في فلسطين لا بُدَّ آت. 

فالجيوش التي أقبلت جرارة محصنة بذلك السلاح رمزية نَصْرِها؛ أصبح ذلك السلاح رمزيةَ هزيمتها! وأصبحت عبرةً كبقايا ورقِ زَرْعٍ مأكول لا وزن له ولا قيمة...

هذه السورة، وهذه الرسالة، وهذا المعنى نذكره في مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن يوم المولد يحمل البشارة للفئة المبشَّرة، كما وُلِدَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي ظن فيه (أبرهة) أنه قادر على بيت الله! فهُزِمَ (أبرهة)، ووُلِدَ سيد الخلق صلى الله عليه وسلم!! 

فكذلك يُبشر المولدُ أن النصر قريب... يُبشر أهلَنا في فلسطين، أهلَنا المبشَّرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحقِّ ظَاهِرِينَ، ‌لَعَدُوِّهِمْ ‌قَاهِرِينَ) رأيناهم على الحق ظاهرين، وسنراهم لعدوهم قاهرين، وسنراهم منتصرين، وسنراهم في الأقصى محرَّراً مصلِّين، بإذن الله تعالى. 

هذه ذكرى المولد، وهذه من رسائله، وهذا تجديد العهد في يوم مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.