النبي الأمي

الكاتب : عطوفة الأمين العام الدكتور أحمد الحسنات

أضيف بتاريخ : 26-09-2023


النبي الأمي

رفع اللهُ سبحانه وتعالى ذِكْرَ سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وزكاه وامتدح صفاته وأخلاقه وخُلقه، وبين بعض أسرار جماله وكماله في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، ومهما أردنا أن نتكلم عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اللسان والمداد والكلمات تعجز عن ذلك فكفاه شرفا قول الله تعالى له: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح:4]، فمهما بلغت الكلمات فبلاغة الكلمات والعبارات تقصر عن حصر أوصافه الشريفة صلى الله عليه وسلم والتعبير عنها مستحضراً قول القائل: 

حاولت أن أصف الحبيب ببعض ما        فهم الــفــؤاد من الــثــنـا القرآن

فوجــــدت قــولي لا يـــفــيء بذرة        من عشر معشار العطا الربانـي

من أيـن يعرب مقـولي عن حضرة       عن مدحها قــد كَــلَّ كُـــلُّ لسـان

من بعـــد ما جاء الـــكتــاب به فما        مــقدار مـــدح العالــم الانسانـي

فسألت من ربي الثبات على الذي         قد خصني والصدق في إيمـــان

وكما أفاد القلــب ســــر تعــلقــي         بحبيبه يــمــلــي بـــذاك جـــناني

فأعيش في ذكر الحبيب مــــنعما         بالذكر منبســـط جميع زمـــانــي

وأفوز في العقبى برؤية وجــــهه        ورضــــاه عني في أجل مــــكان

فقد وصف الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بأوصاف كثيرة حتى قال بعض العلماء: إن ثلث القرآن إنما جاء للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأقف معكم اليوم بالحديث عن وصف واحد من هذه الأوصاف والذي قد يظن من ظاهره أنه وصف نقص ولكنه في حقيقته وصف كمال وجلال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وصف من الله تعالى للنبي بالأمي: قال الله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158]، فالأمي هو من لا يقرأ ولا يكتب وهو في حد ذاته وصف نقص للإنسان؛ لأن القراءة والكتابة شرف له، ولكن إذا ما نظرنا في هذا الوصف في حق النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه وصف فيه إعجاز ودلالته على كمال النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كماله ذاتي له لا علاقة له بالصفات العارضة كالقراءة والكتابة، فهما صفات عارضة على الذات، وذات النبي صلى الله عليه وسلم كاملة مكملة فحسنها وكمالها ذاتي لا عرضي، وقد جاء هذا الوصف للنبي صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية السابقة، كما جاء في القرآن الكريم أيضاً، وهذا الوصف يقتضي زيادة شرف للنبي صلى الله عليه وسلم.

 جاء في [لطائف الإشارات] للقشيري: "فأظهر شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) أي أنه لم يكن شيء من فضائله وكمال علمه وتهيؤه إلى تفصيل شرعه من قبل نفسه، أو من تعلّمه وتكلّفه، أو من اجتهاده وتصرّفه.. بل ظهر عليه كلّ ما ظهر من قبله سبحانه وتعالى فقد كان هو أمّيا غير قارئ للكتب، ولا متتبّع للسّير". 

وقال الإمام الرازي: "وَكَوْنُهُ أُمِّيًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّه تَعَالَى مَنْظُومًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ أَلْفَاظِهِ وَلَا تَغْيِيرِ كَلِمَاتِهِ وَالْخَطِيبُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا ارْتَجَلَ خُطْبَةً ثُمَّ أَعَادَهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُزِيدَ فِيهَا وَأَنْ يُنْقِصَ عَنْهَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ....

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْخَطَّ وَالْقِرَاءَةَ لَصَارَ مُتَّهَمًا فِي أَنَّهُ رُبَّمَا طَالَعَ كُتُبَ الْأَوَّلِينَ فَحَصَّلَ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْ تِلْكَ الْمُطَالَعَةِ فَلَمَّا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا مُطَالَعَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ...

الثَّالِثُ: أَنَّ تَعَلُّمَ الْخَطِّ شَيْءٌ سَهْلٌ فَإِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ ذَكَاءً وَفِطْنَةً يَتَعَلَّمُونَ الْخَطَّ بِأَدْنَى سَعْيٍ، فَعَدَمُ تَعَلُّمِهِ يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانٍ عَظِيمٍ فِي الْفَهْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَأَعْطَاهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَمَعَ تِلْكَ الْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ جَعَلَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْخَطَّ الَّذِي يَسْهُلُ تَعَلُّمُهُ عَلَى أَقَلِّ الْخَلْقِ عَقْلًا وَفَهْمًا، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ جَارِيًا مَجْرَى الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَجَارٍ مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ.

فهذا الوصف وصف كمال في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته الشريفة، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2]، ولله در الإمام البوصيري حينما قال عنه:

كَفَاكَ بالعِلْم في الأُمّيّ مُعجِزَةً       في الجَاهِلِيّةِ والتّأدِيب في اليُتُمِ

بل إن من عظيم البيان والإعجاز أن ربه عز وجل جعل هذا النبي الأمي معلما للأمة ومعلما للعلماء، فمهما ترى من كتابات ومؤلفات ورسائل فإنها كلها رشفة من بحر علومه التي خصه الله تعالى بها، حتى أنك ترى أن كتبا ومؤلفات كبيرة تتحدث عن جزئية واحدة من حديث واحد من حديثه صلوات ربي وسلامه عليه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2].

والحمد لله رب العالمين