منهج الإمام مالك في فقه الكتاب والسنة

الكاتب : المفتي الدكتور سعيد فرحان

أضيف بتاريخ : 27-04-2023


منهج الإمام مالك في فقه الكتاب والسنة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على النور المبين ورحمة الله للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه واستن سنته إلى يوم الدين.

يعد الفقه الإسلامي الجانب العملي للشريعة الإسلامية، وهو روحها المرنة الذي ينير للمكلف الطريق ويرشده بما يجب عليه، وهو المَعين الذي لا ينضب باجتهاداته وأحكامه الصالحة لكل زمان ومكان.

وقضت حكمة الله عز وجل في الفقه أن يُبنى على أصول ثابتة وقواعد متينة تضمن له الرسوخ والثبات، وعلى فروع مرنة واجتهادات محتمِلة، تضمن له الاستمرارية والصلاحية لكل أحد وفي كل زمن، وكثير من الأحكام تستنبط من القليل من النصوص، ومعلوم أن المصدر الأساسي والرئيسي للفقه هو الكتاب والسنة، ولكن ما مفهوم الكتاب والسنة عند من يدرس الفقه ويستنبط منه ويفتي الناس، وكيف يتعامل مع الكتاب والسنة؟

لا شك أن لكل إمام طريقة خاصة به تعامل بها مع الكتاب والسنة في اجتهاداته وفقهه، وفي مدرسته التي أسسها وعلم تلاميذه بها، حتى أصبح لها قواعد وأسس معروفة لدى الجميع.

وهذا عين ما حدث مع الأئمة الأربعة الأعلام، الذين أسسوا مدارسهم الفقهية وفق قواعد وأصول خاصة في كل واحد منهم، هذه الأصول التي استخدموها في فهم نصوص الكتاب والسنة، وفي كيفية تعاملهم معها، فهُم على دراية تامة بالتشريع وحكمته، وقد حباهم الله تعالى العقول الراجحة والنظرة الملهمة.

وهناك في المقابل طائفة ممن ينتسبون إلى الفقه يقولون: الشرع الكتاب والسنة؛ فهما المصدران الرئيسيان والكافيان، ولا نأخذ بأقوال الرجال –طبعا هم يقصدون بهم الأئمة المجتهدين- فما وجدناه في الكتاب والسنة عملنا به وكفانا.

والفقه لا يؤخذ من حديث واحد، بل من مجموع النصوص؛ لأن الحديث يمكن أن يُعارض بأصل من الأصول عند المجتهد، وهذا الإمام مالك كان يترك العمل بالحديث، وربما كان الحديث في الموطأ؛ لأنه يُعارض عمل أهل المدينة. فمن حسن فقهه رضي الله عنه أنه يروي الحديث الذي يخالفه؛ لأصل عنده، حتى لا يُظن أن الحديث لم يبلغه.

ونقول لهؤلاء: قال الله عز وجل في كتابه العزيز: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَعَلَيه بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) رواه الترمذي.

وعلى كل لا أريد أن أناقش في ذلك فليس هنا مجاله، وإنما أردت أن أعرض لمدرسة علمية فقهية ذات أصول وقواعد راسخة في الاجتهاد، مدرسة تعاملت مع دعوى الكتاب والسنة بطريقة غاية في تقديس الكتاب والسنة، والعمل بهما، وهي مدرسة الإمام مالك رضي الله عنه.

الإمام مالك إمام من أعلام مدرسة الحديث، فقد قضى عمره في خدمة الحديث الشريف، وهو ممن دافع ونافح عن الحديث، ولا يخامر عاقلاً شك ممن يطلع على آراء وكتب الإمام مالك بأنه من أشد الناس تمسكاً بالحديث النبوي الشريف، وكل ما قيل عن الإمام مالك من مخالفته للحديث النبوي مجرد افتراءات، من يدعيها لا يعرف شيئاً عن الإمام ومذهبه، فلو أمعن قائل ذلك النظر في الأحاديث التي رواها الإمام مالك، ولم يعمل بها لوجد المسوغ الشرعي لما قام به الإمام، والأمثلة في ذلك كثيرة.

كان الإمام رضي الله عنه من شدة تمسكه بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا يهمل حديثاً قط، ولا يدع نصاً ثبت عنده دون أن يعمل به، ولا يعمد إلى الترجيح أبدأ حتى يبذل وسعه في الجمع بين النصوص كلها؛ فهو يأخذ الحكم الشرعي من مجموع الأحاديث، ولم يكن يقتصر على حديث واحد كما يفعل بعض المتفقهة، لا بل كان يحاول جاهداً ألا يهمل حديثاً ولو بأن يعمل به في فرع فقهي معين، حتى إن كان الحديث الوارد مخالفاً لأصوله رحمه الله تعالى.

ومن أمثلة ذلك: من أصوله رضي الله عنه أن العبادة خاصة بالمرء نفسه، فلا يؤدي أحد عبادة عن أحد، ومن جملة ذلك الحج، فمن وجب عليه الحج وأداه فقد برأت ذمته أمام الله تعالى، أما أن يؤدي الحج عنه غيره، فلا.

لكن؛ لورود الحديث الصحيح في جواز الحج عن الغير فيما رواه البخاري عن الخثعمية قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. وقد روى الإمام مالك هذا الحديث في الموطأ.

قال الإمام مالك رحمه الله: يجوز الحج عن الميت في حج النافلة أما في الفرض فيكره، وهنا أعمل الإمام الأصل العام عنده، وأخذ في الحديث الوارد ولم يهمله، ولو في جزئية معينة من المسألة الكلية.

قال الإمام الدسوقي: "والمعتمد منع النيابة [في الحج] عن الحي مطلقاً أي سواء كان صحيحاً، أو مريضاً كانت النيابة في الفرض، أو في النفل... وما في شرح العمدة من أن النيابة في الحج إن كانت بغير أجرة فحسنة؛ لأنه فعل معروف، وإن كانت بأجرة فالمنصوص عن مالك الكراهة؛ لأنه من أكل الدنيا بعمل الآخرة، فالظاهر حمل النيابة عن الميت لا عن الحي" [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" 2/ 18].

وقريب من هذا من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم؛ فالأصل العام أن أي شيء يدخل الجوف من طعام أو شراب يفسد الصوم ولو صورة، سواء في ذلك العامد والناسي، لكن لورود حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلَا يُفْطِرْ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ) رواه الترمذي، فمراعاة لهذا الحديث قال الإمام مالك أن الأكل والشرب نسياناً يفسد صوم الفريضة ولا يفسد صوم النافلة.

قال الإمام مالكٌ رحمه الله: "من أكل، أو شرب في رمضان، ساهياً، أو ناسياً، أو ما كان من صيام واجب عليه؛ أن عليه قضاء يوم مكانه" [موطأ مالك 1/ 304].

وأكل الجراد جائز عند جمهور الفقهاء من غير تذكية، للحديث الوارد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، الْمَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: أَحْسِبُهُ قَالَ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ) [السنن الكبرى للبيهقي].

والإمام مالك يقول: إن أكل أي شيء لا يجوز من غير ذكاة؛ للقاعدة العامة وهي أن من مات حتف أنفه فهو ميتة ولا يجوز أكله، وبالتالي الجراد لا بد فيه من ذكاة، ولمراعاة الحديث الوارد لم يشترط الإمام مالك في أكل الجراد الذكاة الكاملة، وإنما يجزي بأي فعل من شأنه قتل الجرادة كرميها في الزيت ونحوه.

ففي مسألة أكل الجراد عمل الإمام مالك بالأصل العام وهو أن أي شيء يموت حتف أنفه ميتة لا يجوز أكله، وعمل بأصل التذكية الشرعية، وعمل بحديث حل ميتة الجراد، وما أهمل من ذلك شيئاً، فرحم الله الإمام مالك الذي أسس لمدرسة فقهية جامعة لمن بعده، فلا عجب أن تجد المذهب المالكي مذهب الأصول العامة، والنصوص الشرعية، والمقاصد والمآلات، والمصالح، وهذا هو الفقه الحقيقي، الفقه الكلي.

نفعنا الله بهؤلاء الأئمة الأعلام، وجعلنا على أثارهم مقتدين، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.