رمضان يعلمنا قوة الإرادة ومضاء العزيمة

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 27-03-2023


رمضان يعلمنا قوة الإرادة ومضاء العزيمة

 

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، وبعد:

إن شهر رمضان المبارك نفحة ربانية تتجلى فيها المواهب الرحمانية، وتتفتح فيه أبواب الخيرات والبركات، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون شهر رمضان هو منعطف التغيير في حياة البشر، لينتقل بهم من ظلمات الجهل والجاهلية، إلى نور الإسلام ورحمته، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن القسوة والجفاء، إلى المحبة والأخوة والمودة، فكان مبتدأ هذا الدين بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، وفي هذا الشهر العظيم ارتبطت الأرض بالسماء، وأنزل الله تعالى أولى آيات الكتاب الحكيم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة مهداة يخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن طريق الضلال إلى الهداية والرشاد، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185]، فأصبح بذلك شهر رمضان شهر الرحمة والغفران.

ومن بركات هذا الشهر العظيم أنه محطةٌ يشحذ فيها المؤمن عزيمته، ويجدد إيمانه، وهو مدرسة الإرادة العالية، والعمل الجاد في فعل الخيرات والتقرب من الله سبحانه وتعالى، لذلك أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن ثمرة الصيام هي تحقيق معنى التقوى في النفوس وارتقائها إلى درجة أولياء الله الصالحين، فقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

فشهر رمضان الفضيل يعلمنا التخلي عن شهوات النفس والجسد بترك الأكل والشرب والشهوات، والارتقاء بهذه النفس من خلال تزكيتها وانقطاعها عن أسباب الحياة الدنيوية، إلى تغذية الروح بكثرة الصلاة والعبادة والذكر والتسبيح، فنصبح بذلك أقرب حالاً إلى حال الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، رمضان هو شهر التغيير، وهو شهر الطاعات وعبادة الرحمن، وهو شهر قراءة القرآن.

وفي هذا الشهر، يخوض المسلم دورة تدريبية لتهذيب النفس، وتحصيل التقوى التي من أجلها فرض الصيام، فيعلم المسلم أنه قادر على إحداث التغيير في نفسه ومجتمعه نحو الخير والصلاح والرشاد، قادر على ضبط شهوات نفسه الأمارة بالسوء، لأنه اختبر نفسه في هذا الشهر، فوجدها قادرة على ترك الطعام الحلال، والماء الزلال، من أجل الله وفي سبيل رضاه، تاركاً للمعاصي والآثام، وقادراً على مجاهدة نفسه التي تأمره بالمعصية والشرور وأذية الآخرين، فيتخرج من هذه الدورة وقد حقق مفهوم التقوى الذي أمر الله تعالى.

لذلك كان شهر رمضان المبارك في مفهوم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام هو شهر العمل والإنجازات المفصلية في تاريخ الأمة الإسلامية، ولم يكن شهر التكاسل والتقاعس في الأعمال، بل كان شهر شحذ العزيمة والاستبشار بالفلاح والنجاح في جميع مجالات الحياة، فمن الأحداث المفصلية في تاريخ الأمة غزوة بدر الكبرى التي سماها الله سبحانه وتعالى بيوم الفرقان الذي فرق الله تعالى به بين الحق والباطل، وانتصر بها المسلمون على أعدائهم وجرت أحداثها في السابع عشر من شهر رمضان، وكذلك فتح مكة الذي عادت به المقدسات إلى حظيرة الإسلام ودخل الناس بعدها في دين الله أفواجاً كان في العشرين من شهر رمضان المبارك، فرمضان هو شهر الجهاد على النفس، وشهر الصبر والمثابرة في فعل الطاعات، والاستعلاء على هوى النفس وشهواتها، والمطلوب من المسلم في هذه الأيام المباركة أن يغتنم أيام هذا الشهر العظيم، وأن يجتهد فيه بالصيام والقيام وقراءة القرآن لينال ثمرة عمله رحمة ومغفرة عند الله تعالى، فيعود المسلم كيوم ولدته أمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه. والحمد لله ربّ العالمين