المشاركة الإنسانية الإيجابية

الكاتب : المفتي الدكتور فادي الربابعة

أضيف بتاريخ : 01-03-2023


قيم الحضارة في الإسلام (المشاركة الإنسانية الإيجابية)

 

دعت الشريعة الإسلامية للتمسك بالقيم من بداية دعوتها، وامتدت إلى خارج موطن الدعوة الأول (مكة المكرمة)، ليصل صداها ويعم خيرها العالم كله، ويتمثل ذلك بموقف سفير الإسلام (سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم) ابن عمه الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أرسله إلى ملك الحبشة النجاشي الذي كان يدين بالنصرانية.

ويتمثل ذلك بحديث جعفر بن أبي طالب في [مسند أحمد، حديث رقم: 1699] و[صحيح ابن خزيمة رقم: 2073] في خطابه للنجاشي عن حالهم في الجاهلية مع القيم قائلا: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف"، ثم تابع قوله: "فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه". 

ثم بين له القيم التي دعاهم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "دعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام".

ثم ذكر جعفر موقف المؤمنين من هذه الدعوة فقال: "فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا". 

ثم قال: "فعدَا (طغى) علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث".

 وختم خطابه بحكمة مشيراً إلى سبب لجؤهم إلى الحبشة قائلاً: "فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك".

فالتفت النجاشي إلى وفد قريش الذين جاؤا لإعادة الصحابة إلى مكة المكرمة لإيقاع المكروه بهم وقال: "انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا".  

فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يهاجروا من أرضهم؛ لما يواجهوه من إيذاء وتعذيب، وحفاظاً على حياتهم من القتل، وعلى حريتهم في اختيار معتقدهم إلى الحبشة، ويؤكد عمق المشاركة الإيجابية الإنسانية للإسلام وانفتاحها على المجتمعات الأخرى خاصة التي يقام فيها العدل، وكيف أنصف الرسول صلى الله عليه وسلم ملك الحبشة بوصفه بالعدل، وأن الحبشة فيها ملك عادل لا يظلم عنده أحد، إنها قيمة العدالة الإنسانية التي تحترم الإنسان وحريته وحياته وتنصفه، وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم أنصف ملك الحبشة النجاشي ومدحه بعدله.

ومما يؤكد عمق المشاركة الإيجابية الإنسانية للإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد قبل بعثته ودعوته للإسلام حلفاً عقد في مكة المكرمة يطلق عليه (حلف الفضول) هدفه نصرة المظلوم، ومقاومة الظلم، ومدح هذا الحلف بقوله: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم) رواه الإمام أحمد.

وحلف الفضول عُقد بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وسببه أن رجلاً  من زبيد (بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سمي بحلف الفضول لأن من قام به كان في أسمائه الفضل، كالفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة.

وفي هذا الحلف يقول الزبير بن عبد المطلب:

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا       ألا يقيم ببطن مكة ظالم

فالجار والمعتر فيهم سالم        أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا

فالإسلام يعزز قيمة المشاركة الإيجابية الإنسانية العالمية، ويذم الانعزالية لغير حاجة، كيف لا؟ ودعوته رحمة عالمية للناس كافة، كما وصفه الله سبحانه وتعالى في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، ويدعو إلى المشاركة في المنظمات والجمعيات الإنسانية التي تحفظ حقوق الإنسان والشعوب وحريتهم وتعمل على إقامة العدل واحترام الإنسان بما لا يتعارض مع قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية.