أسئلة مخيفة حول قطيعة الرحم

الكاتب : المفتي الدكتور محمد بني طه

أضيف بتاريخ : 31-10-2022


أسئلة مخيفة حول قطيعة الرحم

 

هل أنا محروم؟،هل أنا قاطع رحم؟ وهل صحيح أن أعمالي لا ترفع، ولا يقبلها الله؟، هذه الأسئلة المخيفة وغيرها كثيرا ما تتردد في أذهان الكثير من الناس، ويوردوها علينا في دائرة الإفتاء عبر مختلف وسائل التواصل التي توفرها هذه الدائرة المباركة للمستفتين، وتكون مصحوبة بلكنة الخوف والإشفاق من الدخول تحت هذه المسميات المرعبة.

 والحقيقة أن هناك عدة دوافع تحمل الناس على طرح مثل هذه الأسئلة، أهمها:

أولاً: الوازع الديني الموجود ـ والحمد لله ـ عند أفراد مجتمعنا المسلم، والذي يتمثل في رجاء الفوز برضى الله، والخوف من الحرمان من رحمته.

ثانياً: النصوص الشرعية الكثيرة سواء من القران الكريم أو من كلام سيد المرسلين والتي تحذر وتنفر من قطيعة الرحم والتشاحن، وتتوعد من يفعلون ذلك بعدم قبول أعمالهم، وحرمانهم من رحمة الله.

ثالثاً: الخصومات والخلافات التي لا يكاد يسلم منها أفراد المجتمع في معيشتهم وتعاملهم مع بعضهم البعض، وما يعقبها من عداوة وتباغض وقطيعة أرحام.

وإزالة هذه الإشكالية من نفس السائل تكون ببث الطمأنينة في نفسه، بأن مجرد خوفه من الوقوع تحت وعيد قطع الأرحام والمشاحنة هو علامة خير عنده، تتمثل بتمكن الإيمان في قلبه، ومراقبته لله وقربه منه.

وكذلك بيان من هو المستحق لذلك الوعيد، وذلك من خلال تجلية معاني تلك النصوص التي وردت في وعيد قاطع الرحم والمشاحن بالحرمان من رحمة الله وعدم قبول أعمالهما، وبيان المقصود منها، وأبرز هذه النصوص:

• قوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الرعد:25.

• قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَاطِعُ رَحِم) متفق عليه.

• ما روي عن الْأَعْمَشِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا بَعْدَ الصُّبْحِ فِي حَلْقَةٍ، فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللهَ قَاطَعَ رَحِمٍ لَمَا قَامَ عَنَّا، فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ مُرْتَجَةٌ دُونَ قَاطَعِ رَحِمٍ» [جامع معمر بن راشد 11/ 174].

• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ. يَوْمَ الإِثْنَيْنِ. وَيَوْمَ الْخَمِيسِ. فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ. إِلاَّ عَبْداً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ. فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا" رواه مسلم.

• قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) [سنن ابن ماجه 1/ 445].

وعند إمعان النظر في تلك النصوص، ومراجعة شروحات أهل العلم عليها، يتبين لنا أن الذي يستحق هذا الوعيد هو من تتوفر فيه الشروط التالية:

1. أن يكون مستحلا للقطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بحرمتها، قال العلامة القسطلاني في شرحه: "فالمراد المستحل للقطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها".

2. أن تكون قطيعته لمصلحة دنيوية زائلة، أما من تكون قطيعته لتحقيق مصلحة أخروية إرضاءً لله تعالى، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يقع تحت هذا الوعيد بشرط مراعاته لضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد يستفرغ جهده بنصيحتهم ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، مع استمراره بتمني الخير والدعاء لهم بظاهر الغيب أن يعودوا لجادة الصواب.

3. أن لا يترتب على صلته تعرضه للأذى، سواء كان معنويا أو ماديا، فإذا ترتب على الصلة أذية مادية أو معنوية وتجنب ذلك فلا يقع عليه الوعيد؛ لأنه لا يلزمه التعرض للأذى لعموم قَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُهُ) [سنن الترمذي 4/ 523].

4. أن يكون متعديا في خصومته وعلاقته مع رحمه، فقلبه مملوء بالحقد عليهم وصدره مشحون بالعداوة لهم، يضمر لهم العداوة والأذية وكل شر، ويمنع عنهم كل معروف وخير، لذلك جاءت الألفاظ "قاطع" بصيغة اسم الفاعل و"مشاحن" بصيغة المفاعلة تشعر بأنهم يبادرون بالقطيعة والشحناء، أما الذي سلم قلبه وصدره من ذلك، لكنه يقتصر على أدنى البر والصلة كالسلام ونحوه على حسب طاقته، ولا يبادر بالعداوة والأذية، فإنه لا يقع تحت ذلك الوعيد. 

نقل ابن بطال رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري قول الطبري: "فإن قال قائل: قد تقدم من قولك إن المتعاهد رحمه بأدنى البر كالسلام ونحوه غير مستحق اسم قاطع، فمن القاطع الذي جاء فيه الوعيد في هذا الحديث؟ قال: هو الذي يقطعهم بالهجرة لهم والمعاداة، مع منعه إياهم معروفه ومعونته".

5. أن يكون راضيا بالقطيعة والشحناء دون أن يبذل وسعه ويستفرغ جهده بمحاولة الصلة وإزالة الشحناء، بل ويتعنت ويسد الطريق على من يحاول ذلك، بخلاف من يبذل وسعه لصلة رحمه ومصالحة خصمه، حتى لو بقي الطرف الآخر مصرا على القطيعة، فإنه يخرج من الوعيد؛ لأنه أدى الذي عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

فيجب على المرء أن يتذكر ما جاء في القرآن وسنة النبي الكريم من الحث على العفو والتسامح، وبيان فضلهما والتغافل عن أخطاء الآخرين، وأن يبقى صدره سليما خاليا من الغل والحقد، والترغيب بالمبادرة إلى إزالة القطيعة والشحناء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ) متفق عليه. 

وبذلك يزول الخوف والقنوط من النفس، وتندفع للمبادرة بإزالة كل أسباب القطيعة والشحناء، ليبقى المجتمع مترابطا متراحما متحابا، عصيا على كل محاولات بذر الخلاف وزراعة الشقاق، فيتحقق مقصد الشارع في بناء مجتمع تحفظ فيه دماء الناس وكرامتهم وأموالهم.