الفتوى وأهداف التنمية المستدامة

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 26-10-2022


الفتوى وأهداف التنمية المستدامة(*)

خلق الله تعالى الإنسان وجعله خليفة على هذه الأرض فقال سبحانه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، ومهمة الاستخلاف تقتضي من الإنسان عمارة الأرض وتنميتها والارتقاء بالإنسانية حضارياً وثقافياً ومادياً وعمارتها العمارة الكونية والأخلاقية، يقول تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وذلك لا يتم إلا من خلال ارتباط الإنسان بخالقه الذي كلفه بهذه المهمة العظيمة، والسير على توجيهاته حتى لا ينحرف الإنسان في مسار عمارته وتنميته عن المبادئ والقيم السامية التي تضمن العدالة والإحسان واستثمار الطاقات والكفاءات العلمية والعملية أفضل استثمار.
وقد كان أحد جوانب هذا الارتباط هو الفتوى التي تشتبك مع واقع الحياة لتسهل للإنسان أداء مهمة الاستخلاف، فليست مهمة الفتوى أن تعرقل مسيرة التنمية، بل هي التي تمهد الطريق لإدارة عجلة التنمية واستدامتها في شتى مجالات الحياة، من خلال وضع الضوابط الشرعية التي تصحح مسيرة التنمية، وإبقائها على الصراط المستقيم الذي يرضاه الله عز وجل.
يقول الإمام الماوردي في كتابه [أدب الدنيا والدين]: "اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء هي قواعدها، وإن تفرعت، وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح".
وقد ظهرت بوادر التنمية المستدامة في الفتوى منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم حيث أصّل النبي صلى الله عليه وسلم لمفهوم "الفتوى المستقبلية" من خلال الإجابة عن وقائع افتراضية لم تحدث بعد، وكيف يمكن التعامل معها في حال وقوعها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: "فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأَنْتَ شَهِيدٌ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: "هُوَ فِي النَّارِ" رواه مسلم. 
ولا شك أن هذه الإجابة من النبي صلى الله عليه وسلم تؤسس لمبدأ مهم وهو أن الإسلام لا يكتفي بالتعامل مع الوقائع وإنما ينظر إلى المستقبل البعيد والمستجدات المحتملة، والنظر في المقاصد والمآلات للفتاوى، وقد درج الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من الفقهاء على هذا المنهج في تصور المسائل، حتى إنا لنجد في كتبهم وقائع افتراضية لهم فيها فتوى ولم تحدث سوى في زماننا، وهو ما يدل على سعة منظور أولئك العلماء واستشرافهم للمستقبل حتى تكون الفتوى حاضرةً تُسهل وتمهد الطريق أمام العلماء.
ولا شك أن الشريعة الإسلامية تمتلك من عناصر القوة ما يجعلها مؤهلة لقيادة عجلة التنمية واستدامتها في أي مجتمع من المجتمعات، وفي شتى المجالات، وذلك لأنها ربانية المصدر تستند في أحكامها إلى توجيهات الله عز وجل وتوجيهات نبيه الكريم الذي خلق الكون وأمر بعمارته واستدامة عناصره وتنميتها، لذلك كانت شريعته شريعة محكمة، قادرة على التعامل مع هذه العناصر وإدارتها بالشكل الصحيح، وكذلك فإن الأمة الإسلامية بمجموعها وما تخرجه من علماء وأصحاب خبرات وكفاءات جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، وخاتمة الأمم التي تحمل ميراث الأنبياء من العلوم والمعارف والخبرات، وبالتالي فإن أحكامها مستقرة وبالوقت ذاته تتمتع بالتوازن بين ثبات القيم والمبادئ والأصول العامة التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه الحياة، وبين المرونة التي مكنها أن تتعامل مع وقائع الحياة وظروفها ومستجدات المسائل في كل زمان ومكان، وبذلك استحقت الأمة الإسلامية أن تكون كما وصفها الله تعالى في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، فهذه الأمة هي أمة الوسطية والاعتدال في أحكامها وتعاملاتها تتعامل بواقعية مع احتياجات الإنسان ومشاعره، وتنسجم مع فطرة الإنسان وميولاته النفسية وحاجاته الطبيعة وإشباع رغباته في التملك والتنعم والنمو الازدهار، ولكن دون إفراط إلى حدّ التغول على حقوق الآخرين، أو الاعتداء عليهم بالغش والطمع، ودون التفريط في حق الله عز وجل أو بحقوق الغير، لذلك كانت الضابط: "الشرعية الربانية" هي الضامن لهذا الاعتدال والتوازن في مسيرة التنمية المستدامة.
وتُعتبر الفتوى من أهم الركائز في تطوير المجتمع وتنميته، وكما أن هناك علماء وخبراء في الاقتصاد والشؤون المالية يرعون تنمية المجتمع في المجال الاقتصادي، وكما أن هناك خبراء في المجال العسكري يدافعون عن بقاء الدولة ووجودها، وكما أن في كل مجال من المجالات التخصصية علماؤه الذين يسيرون أموره وينمون موارده، ويعززون المجتمع بالكفاءات التي تضمن استمراره، فإن علماء الشريعة الإسلامية والمفتون في المجتمع هم الموجه الأكثر تأثيراً في وضع الضوابط التي تنسجم مع الأحكام الشرعية في شتى المجالات في الدولة، بما يضمن استمرارها وتنميتها وفق الضوابط الربانية، ففي المجال الاقتصادي تبين الفتوى الضوابط الشرعية التي تؤدي إلى حفظ المال وصيانته عن الوقوع في الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وتحثهم على التعاون والتكافل والتراحم، وفي المجال الاجتماعي تحارب الفتوى التطرف والتكفير، وتدعو إلى اتباع منهج الوسطية والاعتدال، والتعامل مع الناس بالحسنى، وقد استطاعت الفتوى خلال موجات انتشار مرض كورونا أن تحل كثيراً من الإشكالات التي واجهها العلماء والأطباء في المجال الطبي، وكيفية التعامل على الصعيد الاجتماعي مع هذه الجائحة، مما يسر وسهّل الطريق أمام انحسارها والسيطرة عليها.
وإننا من خلال هذا المؤتمر ومن يمثله من سادة علماء اجتمعوا من مختلف أنحاء العالم، ندعو إلى مزيدٍ من الانفتاح على النظر فيما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية العامة عند إصدار الفتاوى، والنظر في مآلات هذه الفتوى وما سينتج عنها على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والأمني وكافة المجالات، فكم شهدنا في السنين السابقة من فتوى لم تراع مفاهيم التنمية والاستدامة في المجتمع، فأدت إلى هدم المجتمعات وتخريب مقدراتها، وتوقف عجلة إنتاجها، بل وإزهاق أرواح أبنائها، بسبب عدم الانضباط في إصدار هذه الفتاوى، فانقلبت بذلك الفتوى من محرك وموجه للتنمية والاستدامة، إلى مُعرقل في حركة الإنتاج والتقدم، لذلك فإن المطلوب في زماننا: بناء مؤسسات إفتائية قوية قادرة على استكمال المنهج النبوي الأصيل والذي استمر عليه الصحابة والفقهاء في استشراف المستقبل من خلال مواكبة التقدم التكنولوجي والرقمي، وقادرة على استشعار تحديات العصر ومواجهتها، وتشكيل صمام أمان ومنارة للمستقبل.
وينبغي كذلك مراجعة الفتاوى التي تصدر عن المؤسسات والجهات الإفتائية بشكل مستمر، خاصة ما صدر في أزمان سابقة، ولم تعد قادرة على مواكبة التطور في مسيرة البناء والتنمية، فالتجديد المبني على الأصول والثوابت الصحيحة الراسخة التي وضعها العلماء من أتباع المذاهب، أمر مطلوب بناء على المتغيرات الزمانية والمكانية، وهو ما يدل على مرونة الشريعة الإسلامية وسعتها ومواكبتها للحوادث المستجدة، فلا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) سنن أبي داود، فالتجديد المقصود هنا هو التجديد في الظنيات التي فيها مجال واسع للاجتهاد والتجديد، وأما الثوابت والأصول فلا يمسها التجديد لأنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وليست خاضعة للاجتهاد والاختلاف وذلك كالأحكام القطعية في ثبوتها ودلالاتها.
وأن يتم توضيح الفرق بين المفتي والداعية حتى يكون المستفتي على دراية من أمره وأن تكون الفتوى من أصحاب الاختصاص هي الدافع على استمرار عجلة التنمية واستدامتها، وعدم السماح لمن هم غير مؤهلين بالتصدي للفتوى العامة، لأن الفتوى صناعة بحاجة إلى أدوات خاصة ونظر في الأحوال والمآلات ومصالح العباد، ومراعاة أحوالهم، وهو أمر يحتاج إلى عقول ماهرة مدربة في التعامل مع وقائع الحياة وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها. والحمد لله ربّ العالمين.

* كلمة لسماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة ألقاها في مؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم المقام في مدينة القاهرة خلال الفترة ١٧_١٨/ ١٠/ ٢٠٢٢م.