قيم الحضارة في الإسلام

الكاتب : الباحث الدكتور فادي الربابعة

أضيف بتاريخ : 10-08-2022


قيم الحضارة في الإسلام (رواد القيم)

عند الكلام عن القيم لا بد من الإشارة إلى روادها الذين دعوا إليها وتحلوا بها واقعاً في حياتهم وممارساتهم العملية، والباحث المنصف في تاريخ الحضارات، وعلم الاجتماع، والتربية، يتوصل إلى أن رواد القيم هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم الذين دعوا إليها وحرصوا على التحلي بها، وكلهم في ذلك سواء لا فرق بين نبي ونبي؛ فالقيم تعتبر من القواسم المشتركة بينهم، لا تناقض بين قيمة دعا إليها نبي وخالفها نبي غيره، فلا تجد نبياً يدعو إلى الصدق وغيره يدعو لما يناقضه.
ويمكن تقسيم القيم إلى: قيم تتعلق بالفكر والعقل والمعتقد نحو نبذ الخرافات وترك عبادة الأصنام والمخلوق، وقيم تتعلق بتزكية النفوس وتطهير القلوب، وقيم تتعلق بالجوارح، وقيم تتعلق بالتعامل مع الآخر ومع الكون والحياة وسائر الموجودات.
فرواد القيم وقادتها من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى جانب دعوتهم إلى القيمة العظمى: وهي وحدانية الله تعالى، والعدول عن عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، كانوا يدعون إلى القيم الشاملة، وعرفوا بأنهم أصحاب قيم حتى قبل أن يبعثوا لأقوامهم بالرسالة.
فهم رحمة من الله تعالى وفضل أرسلهم للناس يكلمونهم بلغاتهم ويرشدونهم إلى الصواب في كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم، كما في متون العقيدة: 

ومنه إرسال جميع الرسل          فلا وجوب بل بمحض الفضل

(المختصر المفيد في شرح جوهرة التوحيد، للشيخ نوح القضاة، ص123).
ومن هذه القيم التي حرص عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ قيمة الرحمة بالناس والحرص على هدايتهم والشفقة عليهم والتواضع لهم وخدمتهم والنصيحة لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بمفهومه العام الذي يشمل جميع قيم المعروف.
وكانت هذه الدعوة بلا مقابل فلم يطلبوا من الناس مالاً ولا أجراً على دعوتهم، قال الله تبارك وتعالى: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) سورة هود:29.
فنبي الله نوح عليه السلام حرص على دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً ونهاراً، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) سورة العنكبوت: 14. 
ونبي الله إبراهيم عليه السلام دعا قومه إلى ترك عبادة الأصنام والكواكب والنجوم، فقال الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سورة الأنبياء: 51-54.
ونبي الله يوسف عليه السلام الذي عصم نفسه من  فتنة زوجة عزيز مصر بثبات، وامتنع عن فعل الفاحشة ولم يخن من ائتمنه على بيته، قال الله تبارك وتعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ  قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) سورة يوسف:23.
وتتجلى القيم في موقف نبي الله موسى عليه السلام النبيل مع المرأتين اللتين ووصفتاه بالقوي الأمين، قال الله تبارك وتعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ  نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) سورة القصص: 23-26.
وهذا هو حال جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد دعوا الناس لإخراجهم من ظلمات الجهل والرذيله إلى نور العلم والطهر، ختاماً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله تعالى بها الرسالات، والذي كان يعرف في قومه قبل بعثتة بالصادق الأمين، وكان ممن عرفوا بالقيم الإنسانية النبيلة، ومنها ما جاء في قول زوجته خديجة رضي الله عنها: "... كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ..." رواه البخاري.
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم رواد القيم، وهم القدوة الذين ينبغي للناس الإقتداء بهم، قال الله تبارك وتعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) سورة الأنعام: 90.
وقال سبحانه وتعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً) سورة الأحزاب: 21.
وإن ما ذكر من جوانب القيم في حياة الأنبياء عليهم السلام، فهم أصحاب القيم بعمومها تمثلوها في حياتهم وسلوكهم، بها ترفع الأمم، وتقاس حضارة الإنسانية. 

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت        فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا