أخلاقيات الصائم في شهر رمضان

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 10-04-2022


أخلاقيات الصائم في شهر رمضان المبارك

 

خاطبنا الله عز وجل بالصوم كفريضة، وفرض علينا صوم رمضان كركن عظيم من أركان الإسلام الخمسة، قال تعالى: (يَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

ولا شكّ أن كلّ عبادة من العبادات التي فرضها الله تعالى على الإنسان لها حكمة بالغة في إصلاح أمور دينه ودنياه، فمن أجل آثار العبادات تزكية نفس الإنسان وتهذيبها والترقي بها نحو محاسن الأخلاق ومكارمها بحيث يصير المسلم المقيم لفرائض الله تعالى من أحسن الناس أخلاقاً وأنبلهم سلوكاً وأكرمهم شيماً، وهذه الغاية نلمسها في كل شعيرة من شعائر الإسلام، وكل ركن من أركانه، لينتج بذلك التوافق في الإسلام علاقة إيجابية بين الدين والدنيا، والروح والجسد، والدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع.

وتتجلى عظمة الصيام لله سبحانه وتعالى، من خلال آثاره على نفس الصائم وروحه، وسلوكه في المجتمع، ومن خلال الغاية التي أخبرنا الله تعالى عنها في كتابه الحكيم، وهي قوله سبحانه (لعلكم تتقون)، والتقوى هي كلمة جامعة لكل معاني الخير التي تمنع صاحبها من الوقوع في الزلل وارتكاب المنكرات، وذلك لأنّ التقوى هي التي تضبط سلوك المسلم، وتنمي القيم الحسنة في حياته، وتجنبه قول الزور والعمل به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) رواه البخاري، ومن مقتضيات التقوى حسن الخلق مع الناس، لهذا جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الوصية بالتقوى والوصية بحسن الخلق حين قال: (اتَّقِ اللهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رواه الترمذي. 

 والله تعالى جعل مرتبة الإنسان في مرتبةٍ عالية، فقد كرّمه على بقية خلقه، ورفع قدره ومنزلته من خلال الصيام الذي يتشبه به الصائم بحال الملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون، وإنما هم كما وصفهم الله تعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20]، وهم كذلك بانقيادهم لأمر الله تعالى في ترك شهوات النفس ورغباتها (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، وكذلك حال الصائم في ملازمة القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك والإقبال عليه قراءة وترتيلاً، ينزله الله تعالى منازل الملائكة في علو القدر والمنزلة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ) متفق عليه، والسفرة: هم الملائكة الذي يسفرون إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والبررة هم المطيعون لأمر ربّهم.

وحين فرض الله تعالى علينا الصيام في ترك الشهوات، فإنه تعالى أراد بذلك أن يرتقي سلوكياً وأخلاقياً، واجتماعياً، وإيمانياً  إلى درجات عالية، فالمسلم حين يمتنع عن الطعام الطيب والماء الزلال، فإنه يشعر بجوع وعطش الفقراء والمساكين الذين لا يجدون قوت يومهم، فيجسد بذلك معاني الإخوة الإيمانية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) صحيح مسلم، والصيام يرتقي بإيمان المسلم ويسمو به من صفات البشر إلى صفات الملائكة، وذلك من مكرمات الله تعالى لهذا الإنسان الضعيف، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70].

فإن أسهل طرق الشيطان إلى نفس الإنسان هي شهوة بطنه وفرجه، فلما أمر الله تعالى بتركها بالكلية في هذه الأوقات، علمنا أنه تعالى يريد الترفق بنا وتدريبنا على مقاومة وساوس الشيطان من الوقوع في مزالقه ومكائده.

والصيام في شهر رمضان لا يقتصر على حرمان النفس من الطعام والشهوات المادية بل لا بد للمؤمن أن يجعل من صيامه ساتراً له عن شهوات الدنيا مانعاً له من حظ الشيطان من النفس الأمارة بالسوء حتى يرتقي بها إلى الدرجات السامية التي تبعده عن الوقوع في الزلل، وأن يرافق مع كف جوارحه، كف نفسه أيضاً عن التطلع إلى محارم الله تعالى وكبح لجامها عن الموبقات كالحسد والكبر والرياء والغيبة والنميمة، مع مجاهدتها في التقرب إلى الله تعالى بالنوافل والطاعات وقراءة القرآن.

فإننا نجد من الناس من صامت أعضاؤه في الظاهر عن المباحات، ثم نراه يأكل لحم أخيه ولحوم المسلمين ويؤذيهم بلسانه بالغيبة والنميمة والخوض بالأعراض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ) رواه النسائي، وقال صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) رواه النسائي.

 فمن أراد أن يتقبل الله له عمله، فعليه أن يكون من المخبتين لله تعالى، فإن شاتمه أحد أو سابه فعليه أن يترفع عنه، فإن أجابه فلا يزيد بقوله: (إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ).

ذلك خيرٌ له من أن يلغ في دم أخيه، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجام وبين يديه شخص وقد كانا صائمين فيما يبدو للناس، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يغتابان ثالثاً فقال: (أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ) رواه البخاري، وذكره البيهقي في معرفة السنن والآثار، أي أنه وإن سقط عنهما فرض الصيام ولكن عملهما غير متقبل عند الله تعالى لخوضهما في محارم الله وأعراض الناس، وأذية المسلمين.

ومن أخلاق الصائم أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وقد قيل للأحنف بن قيس: أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك فقال: إني أعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه. 

فهذه هي المعاني المطلوبة في الصوم، فمن تحققت فيه هذه المعاني كان حقاً ممن صام حق الصيام وكان مستحقاً للفضل من الله تعالى، وكان ممن تحققت فيهم حكمة الصيام لعلكم تتقون، نسأل الله تعالى أن يكون الصيام مقبولاً، وأن يجعلنا ممن تحققت فيهم حكمة الصوم، وأن يجعلنا ممن يصومن رمضان حق الصيام، وأن يحقق فينا حبه وحب من يحبه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا ودعائنا، أنه نعم السميع المجيب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله ربّ العالمين