الإسراء بِشارة بنهضة الأمة

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 28-02-2022


الإسراء والمعراج بِشارة بنهضة الأمة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين وبعد:

فإن من أعظم الأحداث التي مرّت في تاريخ الأمة الإسلامية، ولا زالت حاضرة في وجدانها لأنها من أيام الله التي يعتز المسلمون بها ويفرحون بمقدمها لما لها من فضل وبركة، حادثة الإسراء والمعراج المباركة، التي حدثت في شهر رجب الأغرّ، تلك المعجزة العظيمة التي أظهرت فضل النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله تعالى، وجاءت لتبشر الأمة الإسلامية بأنها خاتمة الأمم وآخر اللبنات في صرح النبوات العظيم، وأن الله تعالى أوكل لها القيادة والريادة، وجعلها خير الأمم لوسطيتها وشاهدة عليها، يقول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) آل عمران/ 110، ويقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة/ 143.

لقد تجلت بشارات الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده منذ اللحظة الأولى التي هبط بها جبريل عليه السلام ومعه البراق مُلْجَمًا مُسْرَجًا، وطلب منه جبريل الركوب عليه فتحرك البُراق وَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ"، قَالَ: )فَارْفَضَّ عَرَقًا( سنن الترمذي.

تبدأ الرحلة المباركة التي اختار الله تعالى أن تبدأ بإسراء النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى المبارك قبلة الأنبياء والرسل، في أرض القُدس والطهارة، التي بارك الله تعالى فيها للعالمين، فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/ 1، ثم ليكون المسجد الأقصى مبتدأ مِعراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العُلا، ليعقد الله تعالى للمؤمنين بهذه المعجزة الخالدة الرباط العقائدي الوثيق لهذه الأمة ببيت المقدس، وتوثيق بعد توثيق للروابط الإيمانية بالبلد المقدس إلى قيام الساعة، وليكتمل هذا الرباط المُقدس بفرض أعظم ركن من أركان الإسلام في تلك الليلة المباركة وهو الصلاة، وأن تكون القبلة الأولى لهذا الركن العظيم هو المسجد الأقصى المبارك، ليتأكد الميثاق الرباني بين هذه الأمة ومسجدها.

وقد بشّر الله تعالى هذه الأمة بالنهضة والرقي، وأنّها الأمة الخاتمة التي استلمت ميراث الأنبياء عليهم السلام من لدن آدم عليه السلام وحتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتقوم بمهمة الاستخلاف، وحمل أمانة الدين لإقامة الحق والعدل وفق المنهج الرباني القويم، ويتجلى ذلك الأمر حين صلى النبي عليه الصلاة والسلام إماماً بالأنبياء في المسجد الأقصى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: )وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء... فحانت الصلاة فأممتهم( صحيح مسلم.

فإخراج الأنبياء السابقين عليهم السلام وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم بهم في تلك الليلة إشارة إلى ختام الرسالات بنبينا صلى الله عليه وسلم، وأن المسلمين هم حملة رسالة الأنبياء ومنهجهم في الرحمة والهداية والسلام إلى البشرية جمعاء، وأن خلاص البشرية ونجاتها لا تكون إلا بريادة الإسلام ونهضته.

وكذلك فإن على الأمة الإسلامية أن تسعى جاهدة لتحمل أمانة المسؤولية؛ لتكون رائدة بين الأمم بنور العلم والإيمان، وأن تحقق خيريتها بانتهاج منهج الوسطية الذي بُعثت به وارتضاه لها الله عز وجل، يقول تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران/110.

فمهما أحاطت بهذه الأمة الظروف والصعاب، ومهما ضعفت، فإن الإسراء والمعراج يعلمنا حسن الظن بالله تعالى والثقة بنصره وتمكينه، وكما كانت الكرامة والمكانة للنبي صلى الله عليه وسلم وكرامته على الله تعالى، وكما جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتكون تفريجاً للكرب الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لاقاه من أذى قريش وأهل الطائف، فكذلك هي إعلان لجميع المؤمنين الصادقين أنه متى ما أغلقت أبواب الأرض فتحت أبواب السماء، ومتى ما انقطعت النصرة من الأرض جاءت النصرة من السماء، وأن من فرّج كرب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة المباركة قادر على أنه يفرج هموم الأمة الإسلامية، وأن الله سبحانه وتعالى ما زال ولم يزل موجوداً لا يغفل ولا ينام، فهي بشرى للمضطهدين في كل زمان ومكان أن الذي نصر محمدا ليلة الإسراء والمعراج قادر على أن ينصر أمته في أي وقت وأي زمان.

ومهما خيّم الظلام على مقدساتنا الإسلامية ومسجدنا الأقصى قبلتنا الأولى، فإن عقيدة المسلمين ووجدانهم سيبقى مرتبطاً بالمسجد الأقصى المبارك واثقاً بتحقق وعد الله سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) الإسراء/7، وإننا في هذا الوطن الحبيب في المملكة الأردنية الهاشمية قيادة وشعباً نثق بأن المسجد الأقصى المبارك سيبقى حاضراً في وجدان المسلمين، وستبقى القيادة الهاشمية المباركة هم الأوصياء على المقدسات في القدس الشريف ينافحون عنها ويدافعون عنها في جميع المحافل الدولية والعالمية، وستبقى القدس قرة عين الهاشميين وجوهر قضيتهم، التي يبذلون في سبيلها ويؤدون بكل عز وإصرار دورهم التاريخي والشرعي في المحافظة عليها حاضرة في قلوب المسلمين، ولتبقى أبوابها مشرعة مفتوحة للقائمين والناسكين في جنباته.