عناصر خطبة جمعة عن الشجرة

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 11-03-2009


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد:

فإن الله تعالى جعل حياة الناس على وجه الأرض مرتبطة بالنباتات، فهي تتغذى من الأرض، والإنسان والحيوان يتغذيان من النبات، ثم يتغذى الإنسان من بعض الحيوانات، وليس باستطاعة الإنسان أن يتغذى من الأرض مباشرة، وحيثما عدم الغرس والشجر عدمت الحياة.

ولذا كان من رحمة الله أن أنبت لنا الزرع والشجر لتكون هذه الأرض صالحة لحياة البشر عليها، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) أي ترعى أنعامكم ودوابكم . ( يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل/10-11

ولم يقتصر الأمر على الغذاء فقط، بل جعل الله في النبات جمالا وتنوعا لتطيب حياة الناس، قال تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ . وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ . لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ . سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ) يس/33-36.

وفي القرآن الكريم الكثير من التذكير بنعمة إنبات النبات والشجر، ليلفت انتباه الناس إلى أهمية هذه النعمة، ليشكروا الله على ذلك من جهة، وليعلموا أن حياتهم على الأرض ليست صدفة ولا فوضى، بل هي بترتيب حكيم من الله عز وجل، فهو الذي مهد الأرض لتكون صالحة لحياة البشر عليها، قال تعالى: ( وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ . وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات/48-49.

والله عز وجل كما مهد الأرض رسم طريق السعادة للبشر على وجهها، فمن أطاعه سعد، ومن عصاه شقي، قال تعالى: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) طه/123-124. وهكذا تكون السعادة بالاستفادة مما خلق الله في الأرض، وبطاعته عز وجل في التصرف على وجه الأرض.

ومن ناحية ثانية يعلم الله الناس أن يحافظوا على الثروة النباتية، فإن حياتهم متوقفة عليها، وإذا تركوا الصحراء تبتلع الخضار فقد قضوا على وجودهم في الأرض.

ولذا حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزراعة والغرس في أحاديث متعددة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ) متفق عليه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فان استطاع إن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل ) رواه الإمام أحمد وغيره.

وهذا يعني أن استنبات الشجر عمل صالح يراعى فيه تطبيق حكمة الله في الأرض، وليس عملا تجاريا يراعى فيه إمكانية الكسب ومقداره.

ومن نافلة القول أن الاهتمام بالزراعة مظهر حضاري يدل على فهم المجتمع لسنة الله في خلقه، ومدى صعوده في سلم الحضارة الإنسانية، ولقد رأينا المسلمين في عهودهم الزاهرة يعتنون بالشجر حتى غير المثمر، فيكفي ظله في أيام الصيف، وما يقع عليه من طيور تسبح الله تعالى، وتدعو لمن وفر لها الظل الظليل، وكم تغنَّى شعراؤنا بالأشجار وظلالها والطيور وألحانها، وحاكوها في أشعارهم وأنغامهم.

إن ميزة الإنسان الراقي أنه غيري وليس أنانيا، ولذا يغرس لأن الله أمره أن يغرس، ويغرس لينفع عباد الله، ويغرس ليعبر عن حضارة أمته وشعبه، ويغرس لأن الخضرة مظهر من مظاهر الحياة، ويغرس لينفع الأجيال القادمة، سواء نفعه ذلك الغرس أم لا، ومن هنا قال آباؤنا: غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون. وبهذا تستمر الحياة على وجه الأرض.

روى الإمام أحمد وغيره أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أسلم وهو رقيق، فشارط سيده على أن يغرس له خمسمائة نخلة، فإذا عاشت فهو حر، فلما استشار النبي صلى الله عليه وسلم وافقه على ذلك، وأمره أن يهيئ الغراس، ويحفر لها الحفر اللازمة، فإذا تم ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ليغرسها بيده، وهكذا كان، وعاشت النخلات، وعتق سلمان رضي الله عنه، وانضم إلى الصحابة الكرام في نشر الإسلام وخدمة المسلمين، وكانت البداية غرس النخلات، وما أجدرنا أن نتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فنملأ أرضنا الطيبة شجرا مباركا تبعث خضرته البهجة في القلوب، ويستظل به الناس، وتتغذى منه الأجيال.

في سورة الواقعة يبين الله أن مظاهر حياتها على وجه الأرض ترجع إلى أمور أربعة: تكاثر البشر، وتكاثر النبات، وهطول الماء العذب، ووجود النار، وكل ذلك بفضل الله تعالى ورحمته وقدرته، واستمرارُها أيضا بفضل الله وقدرته.  

قال تعالى فيما يخص النبات: ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ . أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) الواقعة/63-67.

فانظر يا أخي المسلم كيف دلنا القرآن الكريم على مقومات الحضارة الإنسانية، إنها الإنسان والنبات والماء والنار، ذلك ليرشدنا إلى وجوب شكره عز وجل، وإلى المحافظة على هذه المقومات لتستمر الحياة الإنسانية بقدرة الله تعالى، وكأنه يقول لنا كما تحافظون على حياتكم بشتى الطرق، فحافظوا على حياة النبات بالزراعة، فإنه لا غنى لكم عنها، ولا تكون لكم حياة على الأرض إلا بها.

إن النبات الصامت ينطق بما يسمعه الحكماء، إنما يسبح الله قائلا: لا يخلق مثلي إلا الحكيم الخبير، وهذا معنى قول شاعرنا المسلم الموحد المتأمل في خلق الله:

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد

وقول الآخر:

تأمل في رياض الكون وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات *** بأصداف من الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

إن المؤمن يتناغم في هذا الكون مع حكمة الله وقدرته، ويلاحظ فيها جمال الله وجلاله، فيبني ولا يهدم، ويزرع ولا يقطع، ويسبح الله بلسانه، ويصغي إلى تسبيح مخلوقاته، وبعكس هذا الكافر الجاحد، الذي قال الله عنه: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) البقرة/205.

وإن الله تعالى عندما شوق المؤمنين إلى الجنة ذكر ما فيها من جنات وبساتين وأشجار ورياحين وأنهار وثمار، وجعل الطريق إلى ذلك العمل الصالح، والذي يؤدى فيه حق الله تعالى بالطاعة، وحق العباد بالشفقة عليهم والرحمة بهم، ومحاولة إنقاذهم من نار الدنيا ونار الآخرة.

ألا وإن هذا موسم زراعة الأشجار، فليساهم كل منا بما يستطيع من غراسة الأشجار بكل أنواعها، وصيانتها من الإتلاف، لتكون أرضنا خضراء، ورياضنا غنَّاء، فهي الأرض المباركة بموقعها وأهلها وأجوائها ومناخها، فيها عاش الأنبياء، وعليها درج الصالحون والأولياء، فاستحقت أن تكون رياضا غناء، ومعاشا للأحفاد والأبناء.