سجود الشكر

الكاتب : المفتي سعيد فرحان

أضيف بتاريخ : 22-06-2017


سجود الشكر

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على الرسول الكريم، ورحمة الله للعالمين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعلى من دعا بدعوته واستن سنته إلى يوم الدين، وبعد:

فقد أغدق الله سبحانه وتعالى نعمه على الإنسان، وأسبلها عليه ظاهرة وباطنة، وفي جميع نواحي حياته، فحيثما نظر، أو تفكر واعتبر وجد نعم الله تعالى في كل أمر من أموره، وفي كل شأن من شؤونه، وقد قال الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) النحل/ 18، ومن أعظم هذه النعم الهداية للإسلام، والانقياد لأوامره جل في علاه.

ونعم الله تعالى منها الدائم الملازم، ومنها ما يمُن اللهُ على عبده بين الحين والآخر، ولما كانت النعم تقابل بالحمد والشكر والعرفان، والتزاماً بقول الله عز وجل: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم/ 7؛ علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية من كيفيات شكر الله عز وجل على نعمه بسجود الشكر.

وسوف نتحدث إن شاء الله تعالى في هذا البحث المختصر عن أحكام سجود الشكر، وأقوال العلماء فيه، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد.

المبحث الأول

 معنى سجود الشكر

معنى السجود لغة: السجود لغة من الانحناء والخضوع ووضع الجبهة على الأرض[1].

قال ابن فارس في مادة (سجد): السين والجيم والدال أصل واحد مطرد يدل على تطامن وذل، يقال سجد، إذا تطامن، وكل ما ذل فقد سجد، قال أبو عمرو: أسجد الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى[2].

أما اصطلاحاً فهو: "وضع الأعضاء السبعة فوق ما يصلى عليه من أرض أو غيرها"[3].

والشكر لغة يأتي بمعان أربعة متباينة ما يهمنا منها ما وافق المعنى الاصطلاحي وهو الثناء، قال ابن فارس: (شكر) الشين والكاف والراء أصول أربعة متباينة بعيدة القياس. فالأول: الشكر: الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه[4].

أما الشكر اصطلاحاً فهو: "صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله"[5].

معنى سجود الشكر:

تدور تعريفات الفقهاء لسجود الشكر حول معنى واحد تقريباً، وهو شكر الله تعالى سواء كان على هجوم نعمة، أم كان على دحور نقمة، ومن هذه التعريفات: "السجود الذي يؤدى عند حصول خير شكراً لله تعالى، وهو سجدة واحدة كسجود الصلاة"[6].

ويلاحظ في هذا التعريف أنه اقتصر على الخير فقط؛ وذلك لأن أمر المؤمن كله خير كما جاء في الحديث الشريف.

المبحث الثاني

آراء الفقهاء في سجود الشكر

اختلف الفقهاء فيما بينهم في حكم سجود الشكر ما بين سنيته وعدم مشروعيته، وفيما يلي بيان ذلك:

ذهب علماء الحنفية إلى أن سجدة الشكر مسنونة، وهذا رأي الصاحبين، وعليه الفتوى، قال الإمام الحصكفي: "وسجدة الشكر: مستحبة، به يفتى"[7].

أما الإمام أبو حنيفة فلا يراها مشروعة؛ واختلف علماء الحنفية في معنى ذلك بين من قال إن الإمام لا يرى سنيتها، وبين من قال لا يرى وجوبها، وحجة الصاحبين ورودها عن الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بكر وعمر وعلي.

قال ابن عابدين: "(قوله به يفتى) هو قولهما [أي أن الفتوى على سنية سجود الشكر]، وأما عند الإمام فنقل عنه في المحيط أنه قال: لا أراها واجبة؛ لأنها لو وجبت لوجب في كل لحظة؛ لأن نعم الله تعالى على عبده متواترة، وفيه تكليف ما لا يطاق، ونقل في الذخيرة عن محمد عنه أنه كان لا يراها شيئا، وتكلم المتقدمون في معناه؛ فقيل لا يراها سنة، وقيل شكرا تاما؛ لأن تمامه بصلاة ركعتين كما فعل عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، وقيل أراد نفي الوجوب، وقيل نفي المشروعية وأن فعلها مكروه لا يثاب عليه، بل تركه أولى، وعزاه في المصفى إلى الأكثرين، فإن كان مستند الأكثرين ثبوت الرواية عن الإمام به فذاك، وإلا فكل من عبارتيه السابقتين محتمل، والأظهر أنها مستحبة كما نص عليه محمد؛ لأنها قد جاء فيها غير ما حديث وفعلها أبو بكر وعمر وعلي، فلا يصح الجواب عن فعله صلى الله عليه وسلم بالنسخ"[8].

أما المالكية فقد ذهبوا في مشهور مذهبهم إلى كراهة سجود الشكر، قال الإمام ابن الحاجب رحمه الله تعالى: "ويكره سجود الشكر على المشهور"[9].

وجاء في المدونة: "قال ابن القاسم وسألت مالكا عن سجود الشكر يبشر الرجل ببشارة فيخر ساجدا؟ فكره ذلك"[10].

وذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أن سجود الشكر مستحب.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: "وسن سجدة للشكر كسجدة التلاوة خارج الصلاة، عند هجوم نعمة كحدوث ولد، أو جاه، أو مال، أو قدوم غائب، أو عند اندفاع نقمه كنجاة من غرق، أو حريق"[11].

وقال الإمام المرداوي: "ويستحب سجود الشكر هذا المذهب مطلقا، وعليه الأصحاب"[12].

إلا أنه في قول عند الحنابلة أن سجود الشكر يكون لنعمة عامة للناس، وليس لنعمة خاصة بالفرد، إلا أن الراجح عندهم أن سجود الشكر يسن لهجوم النعمة أو اندفاع النقمة سواء كانت عامة أم خاصة، قال الإمام المرداوي: "فائدة: الصحيح من المذهب: أن يسجد لأمر يخصه نص عليه وجزم به في الرعاية الكبرى، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب"[13].

الأدلة:

استدل الإمام أبو حنيفة على عدم مشروعية سجود الشكر بالآتي:

أولاً: السجدة الواحدة ليست بقربة إلا سجدة التلاوة[14].

ثانياً: أنها لو وجبت لوجبت في كل لحظة؛ لأن نعم الله تعالى على العبد متواترة بمعنى أنها لا تنتهي[15].

أما الإمام مالك فقد استدل بالآتي:

أولاً: أنه سجود الشكر ليس مما شرع في الدين فرضا ولا نفلا؛ إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه.

ثانياً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده؛ ولو كان لنقل؛ إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ. ثالثاً: أن ما قص الله تعالى علينا من سجود داود عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} ص  / 24، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم لا دليل فيه؛ إذ ليست سجدة شكر، وإنما هي سجدة توبة، وعلى فرض التسليم فهذا شرع من قبلنا[16].

واستدل جمهور الفقهاء ممن ذهب إلى سنية سجود الشكر بالآتي:

أولاً: القرآن الكريم في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الحج / 77، وهذا أمر عام بفعل الخير وبالسجود فيدخل فيه سجود الشكر، قال الإمام ابن حزم: "مسألة: سجود الشكر حسن، إذا وردت لله تعالى على المرء نعمة فيستحب له السجود، لأن السجود فعل خير، وقد قال الله تعالى: {وافعلوا الخير} الحج / 77"[17].

وكذلك قول الله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} ص / 24، قال الإمام الشربيني رخمه الله تعالى: "بل هي أي: سجدة (ص) سجدة شكر؛ لتوبة الله تعالى على داود عليه الصلاة والسلام، أي: لقبولها"[18].

ثانياً: السنة النبوية المطهرة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث التي روت سجوده عليه الصلاة والسلام شكراً لربه عز وجل، ومن هذه الأحاديث:

  1. ما رواه  أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إنِّي سَأَلتُ رَبِّي وَشَفَعتُ لأُمَّتِي، فَأَعطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي فَخَرَرتُ سَاجِدًا شُكرًا لِرَبِّي، ثُمَّ رَفَعتُ رَأسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي فَأَعطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي فَخَرَرتُ سَاجِدًا لِرَبِّي شُكرًا، ثُمَّ رَفَعتُ رَأسِي، فَسَأَلتُ رَبِّي لأُمَّتِي فَأَعطَانِي الثُّلُثَ الآخِرَ فَخَرَرتُ سَاجِدًا لِرَبِّي)[19].
  2. عن أبِي بكرة، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا شَاكِرًا لِلَّهِ"[20].
  3. ما رواه ابن ماجه في سننه: سنن ابن ماجه (1 / 446) :
  4. عن عَبد الرَّحمنِ بنِ كَعبِ بنِ مالكٍ عن أَبِيهِ، قَالَ: "لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَرَّ سَاجِدًا"[21].

وأجابوا عن دليل أبي حنيفة بأنها لو وجبت سجدة الشكر لوجبت في كل لحظة؛ لأن نعم الله تعالى على العبد متواترة.

بأن سجود الشكر يستحب عند هجوم نعمة ظاهرة أو اندفاع نقمة معينة، قال الإمام المرداوي: "قال القاضي وجماعة: يستحب عند تجدد نعمة أو دفع نقمة ظاهرة؛ لأن العقلاء يهنون بالسلامة من العارض، ولا يفعلونه في كل ساعة، وإن كان الله يصرف عنهم البلاء والآفات، ويمتعهم بالسمع والبصر، والعقل والدين، ويفرقون في التهنئة بين النعمة الظاهرة والباطنة، كذلك السجود للشكر. انتهى[22].

وأجابوا عن دليل الإمام مالك بأنه لم يرد وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، بأن سجود الشكر ورد فعله من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما من أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا شَاكِرًا لِلَّهِ" فقد حسنه الترمذي وصححه الحاكم. وكذلك ورد سجود الشكر عن أصحابه رضوان الله عليهم.

المبحث الثالث

شروط صحة سجود الشكر

ذهب جمهور الفقهاء ممن استحب سجود الشكر إلى اشتراط الطهارة فيه.

قال الإمام البهوتي: "وصفة سجود الشكر وأحكامه كسجود التلاوة[23].

قال ابن حجر: "وهي أي: سجدة الشكر كسجدة التلاوة المفعولة خارج الصلاة في كيفيتها، وواجباتها، ومندوباتها"[24].

فلا بد في سجود الشكر من تحقق شروط ستر العورة واستقبال القبلة، بالإضافة إلى الطهارة.

وذهب بعض المالكية والظاهرية إلى أن سجود الشكر لا يحتاج إلى طهارة؛ وعلل من قال ذلك من المالكية بأن الإلزام بالطهارة عند عدم وجودها يفوت وقت السجود، قال الإمام الحطاب: "سجود الشكر على القول به يفتقر إلى طهارة، وهو كذلك على ظاهر المذهب، واختار بعض من لقيناه من القرويين عدم افتقاره [أي: سجود الشكر] إليها [أي: الطهارة]؛ لما أنه إذا تركه حتى يتوضأ أو يتطهر أو يتيمم زال سر المعنى الذي أتى بسجوده له"[25].

ويجاب عن ذلك بأن الوقت الذي يستهلك في مصلحة العبادة لا يعد فاصلاً كإجابة المؤذن والاجتهاد في القبلة، وستر العورة، وغير ذلك من سائر الكمالات المطلوبة منها لأجل الصلاة فإنه لا يضر حدوثها مراعاة لمصلحة الصلاة[26].

وقال الإمام ابن حزم: "إن قراءة القرآن والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله تعالى أفعال خير مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان"[27]. فالإمام ابن حزم يقول أن الأصل جواز سجود الشكر بلا مانع، والذي اشترط الطهارة وضع المانع بلا دليل.

والذي نختاره من هذه الأقوال سالفة الذكر هو: أن سجود الشكر مستحب، ورد في الأحاديث فعلُه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة من بعده، ولا مراء في ذلك؛ فالأحاديث في ذلك كثيرة، والأدلة حاضرة.

وأن سجود الشكر عبادة بها وجه شبه بالصلاة، وشبه تام بسجود التلاوة؛ فلا بد لأدائها من الطهارة. والله تعالى أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


[1] - انظر المعجم الوسيط ج1، ص 416

[2] - ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني، معجم مقاييس اللغة (3 / 133)، باب السين والتاء وما يثلثهما

[3] - الجاوي، محمد بن عمر نووي، نهاية الزين في إرشاد المبتدئين (ص: 68).

[4] - مقاييس اللغة (3 / 207).

[5] - الشربيني، محمد الخطيب، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، (1/8).

[6] - قلعجي، محمد رواس معجم لغة الفقهاء (ص: 242).

[7] - الحصكفي، محمد بن علي، الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/119).

[8] - حاشية ابن عابدين، (2/119).

[9] - ابن الحاجب، جمال الدين بن عمر، جامع الأمهات (ص136)، اليمامة للطباعة والنشر – بيروت، ط1 1998.

 

[10] - المدونة (1 / 197).

[11] - الأنصاري، زكريا بن محمد، الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/387).

[12] - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2 / 200).

[13] - المرجع السابق.

[14] - انظر المبسوط للسرخسي (1 / 228).

[15]- انظر حاشية ابن عابدين، (2/119).

[16] - انظر البيان والتحصيل (1/393)

[17] - ابن حزم، علي بن أحمد الظاهري، المحلى بالآثار (3/331).

[18] - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1 / 443).

[19] - السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، حديث برقم 2775.

[20] - سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، حديث برقم 2774، ورواه ابن ماجه في سننه ، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، حديث برقم 1394.

[21] - ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، حديث برقم 1393.

[22] - المرداوي، علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2/200).

[23] - الروض المربع شرح زاد المستقنع (ص: 121).

[24] - تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (2 / 218).

[25] - الحطاب، محمد بن محمد الطرابلسي، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/62).

[26] - انظر المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 66).

[27] - المحلى بالآثار (1 / 95).