وسطية الفكر الأشعري

الكاتب : المفتي الدكتور جاد الله بسام

أضيف بتاريخ : 14-12-2021


وسطية الفكر الأشعري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

حياة الإنسان في هذه الدّنيا لا يمكن أن تستمرّ بطمأنينة واستقرار إلا باستقامة فكرية تتمثل في معرفة أصل النشأة ومعرفة الخالق سبحانه وتعالى معرفة صحيحة، والالتزام بشريعة كاملة تنظم شؤون الحياة أفراداً ومجتمعات.

وقد أدرك علماء أهل السنة والجماعة من الأشاعرة ومن وافقهم أنّ المعرفة بالله تعالى وبرسله عليهم صلوات الله وسلامه هي أساس الفكر كلّه، وأصل العمل كلّه، وقِوام الخُلُق القويم وإخلاص القلب السليم، فلذلك عدّ العلماء علم العقيدة أعلى العلوم وأسماها، وبلغ من الفضيلة غاية ذراها، وفي ذلك يقول العلامة النفراويّ مؤكداً شرف علم العقائد وفضله: "وإنّما كان أفضلها وأقربها؛ لأنه يوصل إلى معرفة ذات البارئ وصفاته ومعرفة أنبيائه"([1]).

وليس بعجيب أن تنشأ في تاريخ الفكر والحضارة مذاهب شتى وآراء متفرقة، لكن الواجب على الإنسان المسلم المهتمّ بالثقافة والفكر والحضارة أن يعتصم بطريق واضح في خضم هذه الاختلافات الكثيرة، وما من طريق أوضح من طريقة أهل السنة والجماعة التي قرروها على وفق إرشادات القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]، ويقول سبحانه: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].

وقد عكف علماء أهل السنة والجماعة على صيانة عقيدة الإسلام من كل دخيل، فأصّلوا الأصول، وفرّعوا الفروع، وبينوا مراتب الأحكام والمسائل، وأعطوا لكل شيء من ذلك حقّه، فلم يرتضوا الخلط في شيء من ذلك، وبذلوا في سبيل هذه المهمة كل غالٍ ونفيس، فكتبوا الكتب، وعقدوا المناظرات والمباحثات، وانتقدوا المخالفين بالطريقة العلمية المرضية، وربما نقدوا الموافقين لهم في بعض الجوانب والآراء، وكانت نتيجة هذه المهمة أن برز مذهب أهل السنة والجماعة على غيره من المذاهب بصائب الآراء ومعتمد الأفكار، من غير اختلاط بشيء من شذوذ الأهواء وخطأ الأنظار، وكان حقيقاً به أن يعبّر عن روح الإسلام ووسطيته وكماله عقيدة وشريعة وسلوكاً، وأن يكون هو الحقيقة الناطقة بسرّ عدالة هذه الأمة وعنوان شهادتها على الأمم، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وميزة الوسطية ليست مجرّد وصف أجوف، بل معناه الحقيقيّ مرتبط بالقواعد العلمية التي ينضبط بها فكر مذهب أهل السنة والجماعة، قال الشيخ ملا علي القاري رحمه الله تعالى: "وفيه إشارة إلى أنّ سبيل الله وسط ليس فيه تفريط ولا إفراط، بل فيه التوحيد والاستقامة ومراعاة الجانبين في الجادّة، وسبل أهل البدع مائلة إلى الجوانب، وفيها تقصير وغلوّ وميل وانحراف وتعدّد واختلاف"([2]).

ملامح وسطية الفكر الأشعري:

إنّ وسطية الفكر الأشعري ذات ملامح واضحة تبرزها قواعد مذهبهم التي ميزتهم عن سائر الفرق والطوائف، ونشير إلى جملة منها فيما يأتي:

أولاً: الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وأنهما يفهمان على ظاهرهما ما أمكن ذلك، ولا يجوز العدول عنه من غير حجة نقلية أو عقلية أو حسية تقتضي ذلك العدول، وأنه يجب ردّ المتشابه من نصوصهما إلى المحكم من كتاب الله تعالى، ويجب أن تفهم هذه النصوص حسب أساليب اللغة العربية، قال الحافظ ابن فورك رحمه الله تعالى: "وذلك أن آيَ الكتاب قسمان: فقسم هو محكم تأويله بتنزيله يفهم المراد منه بظاهره وذاته، وقسم لا يوقف على معناه إلا بالردّ إلى المحكم، وانتزاع وجه تأويله منه، فكذلك أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم جارية هذا المجرى ومنزلة على هذا التنزيل"([3]).

ثانياً: الوقوف عند حدود الإجماع، والاستناد إليه في تقرير مسائل الاعتقاد، شريطة أن يكون صحيحاً ليعتدّ به وتقوم بمضمونه الحجة، وإنما يكون الإجماع مفيداً للقطع إذا كان منقولاً نقلاً متواتراً، وإلا كان كأخبار الآحاد يفيد الحكم على سبيل الظن، فيحكم به بهذه المرتبة.

ثالثاً: عدم الخروج عن أساليب العرب في الخطاب، فالقرآن الكريم نزل بلسان العرب، فلا بد من اتباع أساليب العرب لمعرفة الحقيقة والمجاز والمجمل والمبين والمطلق والمقيد، والاستعارات والتشبيهات والكنايات، وغير ذلك مما يجري في الأساليب اللغوية، ومن أهمها المجاز، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، قال ابن جني رحمه الله: "الحقيقة: ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك. وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة، وهي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإنّ عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة"([4]).

وقد أنكر المجاز فئة من الناس محتجين بأنه اصطلاح حادث، وهذا الكلام مغالطة وخروج عن نهج العلم؛ فكثير من مصطلحات علم أصول الدين وأصول الفقه والنحو والصرف والبلاغة والفقه لم يعرفها السلف بأسمائها التي اصطلح عليها من جاء بعدهم، وإضافة إلى ذلك يلزم من إنكار المجاز أن تكون أكثر مخاطباتنا كذباً، قال ابن قتيبة رحمه الله: "ولو كان المجاز كذباً، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلاً، كان أكثر كلامنا فاسداً؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وقام الجبل، ورخص السعر"([5]).

رابعاً: الاستناد إلى محكمات العقول، فالله تعالى جعل العقل مناط التكليف، فبه يعرف المكلف ربه، وبه يفهم خطابه له، وعليه يحاسب ويؤاخذ في الدنيا والآخرة؛ فالدعوة إلى إهمال العقل دعوة تخالف القرآن الآمر بالنظر والتفكر والاعتبار، وليس في الدعوة إلى إعمال العقل دعوة للإعراض عن النقل، بل هو إعمال لهما، وتمام الاهتداء لا يتحقق إلا بذلك، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والآذاء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العوراء لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور"([6]).

خامساً: الاستقراء التامّ للنصوص، ونعني بذلك أنهم أعملوا الأدلة كلها بعد جمعها وحصرها، ليتأتى لهم فهمها، فقد جمعوا جميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفسروها جميعاً وفق المنهج الأصولي المعروف، فوفقوا بين النصوص، وحملوا المطلق على المقيد، والعام على الخاص، والمجمل على المفسّر، ولم يبق آية أو حديث برواياته المتعددة إلا ونظروا فيه وفسروه حتى ولو كان ضعيفاً، ولهم في ذلك مصنفات عديدة.

سادساً: التمييز بين المسائل القطعية والظنية، وما يستوجبه ذلك من التفرقة بين الأدلة القطعية والظنية، فأهل السنة والجماعة من الأشاعرة ومن وافقهم لا يخلطون بين مراتب الأدلة، وينظرون إلى كل نوع من المسائل بحسبه، ويرتبون عليه من الأحكام ما يليق به.

وهذه قواعد كبرى امتاز أهل السنة والجماعة بمراعاتها على وجه الصواب، فكانت آراؤهم التي نقرؤها في كتب الاعتقاد موافقة للحق في المسائل المنصوصة، ونجد أن آثارها العملية مناسبة لطاقات الناس وقدراتهم وما يقع على عاتقهم من التكليف الإلهيّ، ونجد أن مذهب أهل السنة والجماعة أحاط الإسلام بقواعد ثابتة قوية، ومنع ورود الشبهات عليه بواسطة تلك القواعد والبحوث التي تخدمها.

وهذه القواعد ذات فائدة كبرى أيضاً، فإنها تمكّن العالم من التفرقة بين صحيح الآراء وفاسدها، والقول المعتمد من القول الشاذّ، وتميز مذهب أهل السنة عن غيره من المذاهب، فإنّ بعض العلماء قد تقع منهم زلّة في بعض المسائل، لكن هذه الزلات لا يعتدّ بها إذا وضعت في ميزان هذه القواعد، وهذا أيضاً من ملامح الوسطية التي يمتاز بها مذهب أهل السنة والجماعة، فليس هو مذهباً يتحدّد بقول فلان أو فلان من العلماء، بل الأمر على العكس من ذلك، فإن آراء العلماء هي التي توزن بمعيار مذهب أهل السنة والجماعة، لأنه مذهب مستند إلى قواعد ثابتة، مسيجة بسياج الكتاب والسنة على وفق القواعد العلمية اليقينية، وهذا ما يحفظ ثبات هذا المذهب واستمراره على مدى الأزمان مع كثرة علماء الأشاعرة وتنوع مشاربهم النظرية والفكرية واختلافهم في بعض المسائل.

وكان من أبرز نتائج وسطية الفكر الأشعري أنهم يحترمون آراء المخالفين ويعطونها حقها من الدراسة والنقد والتقويم، فلا يهملون شيئاً يقوله المخالفون إلا وينظرون فيه نظراً مستوفياً، لذلك وجدنا علماء الأشاعرة يكتبون الكتب في تدوين آراء المخالفين من أصحاب الفرق والآراء والمقالات، فهذا كتاب "الفرق بين الفرق" للإمام عبد القاهر البغدادي، وهذا كتاب "التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين" للإمام أبي المظفر الإسفراييني، وكتاب "الملل والنحل" للإمام الشهرستاني، وكتاب اعتقادات "فرق المسلمين والمشركين" للإمام فخر الدين الرازي، وغيرها من الكتب، ومن قبل هذه الكتب كلها كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" للإمام أبي الحسن الأشعري مؤسس المذهب.

ومن أبرز نتائج هذه الوسطية الأشعرية أيضاً أنْ كان هذا المذهب مذهباً لعامة الفقهاء في الأمصار الإسلامية من المذاهب الأربعة ذات الانتشار الواسع، كما أنّ علماء هذا المذهب لا يتسرّعون في تكفير المخالفين أو تبديعهم أو تضليلهم، لذلك وجدنا نطاق هذا الحكم الخطير منضبطاً في الفكر الأشعري انضباطاً كبيراً جداً، محصّناً بقواعد النقل اليقينية، فلا تكفير إلا بيقين واضح كما هو منصوص عليه في الكتب المعتمدة عند علماء هذا المذهب من المتخصصين في الفروع، ومن نتائج ذلك أيضاً أنه لم يولد تطرف أو استحلال للدماء من أتباع هذا المذهب على مدى تاريخه، ولذلك فإننا يمكن أن نستحضر مقولات هذا الفكر في معالجة كثير من مشكلات حاضرنا، وكيفية التعامل مع التيارات المعاصرة والأفكار المتطرفة التي نعاني منها.

وختاماً؛ نسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمعرفة الحقّ والثبات عليه والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.

 


([1]) النفراوي، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ج2، ص354.

([2]) ملا علي القاري، مرقاة المفاتيح، ج1، ص254.

([3]) ابن فورك، مشكل الحديث وبيانه، ص43.

([4]) ابن جني، الخصائص، ج2، ص444.

([5]) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص85.

([6]) الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص9.