المولد بشارة لبداية جديدة

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 18-10-2021


المولد النبوي الشريف، بشارة لبداية جديدة

 

 

لم يكن المولد النبوي الشريف حدثاً عابراً في التاريخ، بل هو مناسبة عظيمة كانت سبباً في قيام خير أمة أخرجت للناس لتنشر الخير وتقيم أسس الحق، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبمولده صلى الله عليه وسلم أشرقت الأرض بنور النبوة بعد أن عمّت عليها ظلمات الجاهلية العمياء، وتلوثت الأرض بالذنوب والمعاصي، فأنزل الله تعالى القرآن الكريم لينير ظلمات الشك والشرك، ويخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ليفتح بذلك أملاً جديداً لكل تائه أو حائر، وكل باحث عن الهُدى والرشاد، لذلك سماه الله تعالى نوراً ورأت أمه حين ولدته نوراً، وجاء بالنور الذي أشرقت عليه السماوات والأرض وصلح به أمر الدنيا والآخرة،، فمن اتبع هديه وسنته، هداه الله تعالى إلى طريق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنِّي عندَ اللهِ مَكتوبٌ بخاتَمِ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ في طينتِه وسأُخبِرُكم بأوَّلِ ذلك:  دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ) [مسند أحمد].

يقول القاضي عياض في كتابه [الشِفا]: "ومن العجائب عند ولادته، أنه ولد رافعاً رأسه شاخصاً ببصره إلى السماء"، وما رواه البيهقي عن الزهري مُرسلاً: "وما رأته أم عثمان بن أي العاص من النور الذي خرج معه عند ولادته، ومن تدلي النجوم _أي نزولها ودنوها منه تبركاً بحضرته_ وظهور النور عند ولادته حتى ما تنظر _أي أم عثمان_ إلا النور، وأضاء لها ما بين المشرق والمغرب".

لقد كانت البشارة بمولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إرهاصاً للتغيير على المستوى الكوني، لذلك كان المولود ليس كأي أحد، بل هو خير الخلق أجمعين، من سيكون قادراً على تغيير أحداث التاريخ، وتبديل حركة البشرية، فكان قدر المولود منسجماً مع عِظم المسؤولية، وجاءت البشائر في ليلة مولده الشريف لتعم أركان الأرض مجلية عن حقبة جديدة في تاريخ البشر، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، كل هذه الأحداث تعلن عن تغييرات جذرية بدأت بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.

إن من حكمة الله تعالى أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم بشراً نتبع سنته، ونهتدي بهديه، ليبقى الصلاح والخير بين الناس، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، غير أن هذه البشرية تمثّلت بأبها صفاتها، وأجمل معانيها، وأكمل صورها، فكان صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين، ووصفه الله تعالى بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وأثنى على خُلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فكان هو  صلى الله عليه وسلم، خير الخلق أجمعين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم إلى يوم الدين، وقائد الغر المحجلين، فكان رجلاً بحجم أمة، بل بقدر الأمم كلها، القائد الذي تقتدي به البشرية في عملها وإيمانها وجميع شؤون حياتها، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيُّ؟ قَالَ: (مَا عَلِمْتُ حَتَّى أُعْلِمْتُ ذَلِكَ يَا أَبَا ذَرِّ، أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءَ مَكَّةَ) فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: فَزِنْهُ بِرُجَلٍ (فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ) قَالَ: فَزِنْهُ بِعَشَرَةٍ (فَوَزَنَنِي بِعَشَرَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ) ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ (فَوَزَنَنِي بِمِائَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ) ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفِ (فَوَزَنَنِي بِأَلْفٍ فَرَجَحْتُهُمْ) ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ رَجَحَهَا.

إن ذكرى المولد النبوي الشريف تمثل منارة أمل تتجدد في كل عام فرصة لكل مسلم للإقبال على الله تعالى، وإحداث التغيير في نفسه، وهي خير نافذة يتطلع منها المؤمنون إلى واقع ومستقبل جديد، ملؤه الأمل والتفاؤل، والسعي نحو النهوض، فكما نهضت البشرية من قبل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عمّت فيها ظلمات الجاهلية، لهي اليوم أقدر على النهوض، وأجدر أن تزيح عن كاهلها ركام الجهل والعصبية، خاصة وأن تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم لا زالت حاضرة في قلوبنا، ومحبته قائمة في وجدانناً، وكتاب الله تعالى يرشدنا إلى ما فيه الخير والصلاح. 

بل إن ذكرى المولد النبوي الشريف لهو مناسبة تذكرنا بوجوب التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم،  والدفاع عنه، وبيان أخلاقه وصفاته، وتعريف الناس كافة على دينه وإرشاداته، لتعود هذه الأمة بأخذ دورها الريادي بين الأمم كما أرادها لها الله عز وجل، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، واستحضار ذكرى المولد النبوي الشريف وما فيه من بشارات وإرهاصات بنبوته صلى الله عليه وسلم لهو جزء أصيل من الإيمان، والتعريف بنبينا صلى الله عليه وسلم وبيان صفاته الحميدة وأخلاقه الرحيمة، هو جزء من الأمر بالمعروف الذي ورد في الآية الكريمة، وبشارة مولده صلى الله عليه وسلم لهي بشارة لكل مسلم، للبدء بالتغيير نحو الأفضل، ونبذ المعاصي، والإقبال على الطاعات بقلوب محبة لله تعالى مقتدية بخير إنسان وخير قائد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) [صحيح مسلم]. والحمد لله رب العالمين