خطر الفتوى الشاذة على المجتمع

الكاتب : المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب

أضيف بتاريخ : 14-12-2016


الدين الإسلامي بطبيعته يقبل الاختلاف والتنوع، ويتعامل معه كسنة كونية أرادها الله تعالى، قال الله تعالى: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) هود/118-119.

ولا يزالون مختلفين في الأديان والأخلاق والأفعال، ولذلك خلقهم أي للاختلاف، على بعض الأقوال، فالاختلاف في الفهم والرأي والأديان والأخلاق والأفعال مما لا مفر منه.

والأصل أن لا ينتج عنه عداوة وبغضاء واحتراب؛ لأنه من طبيعة البشر، فهل خلق الله البشر بعقل واحد ورأي وفهم واحد وسلوك واحد حتى لا يختلفوا؟ لو أراد الله تعالى ذلك لكان، ولكنه لم يشأ.

لذلك أمرنا الإسلام أن نحسن التعامل مع المخالف، وأن نتحاور معه بالتي هي أحسن، على أساس الندية المبنية على الاحترام المتبادل، ونتلمس هذه المعاني من قول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) النحل /125. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) آل عمران / 64. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) سبأ / 24.

رفض الاختلاف، وعدم قبول الرأي الآخر، يولد التعصب، الذي يجعل الإنسان تابعًا، معطلًا لفكره وعقله، يتماها مع رأيه فيصبحان شيئًا واحدًا، فيرى نقد الفكرة نقدًا لذاته وشخصه.

فمن أين يأتي التعصب، وكراهية الآخر ورفضه التي تنسب لبعض المسلمين اليوم، إذا علمنا أن النصوص الإسلامية المقدسة لا تقرّ شيئًا من ذلك؟ إن مصدر هذا الانحراف عن النص المقدس منبعه الاجتهاد البشري الذي ينتج عن الفهم الخاطئ للنص، ويصدّر الفتاوى الشاذة التي تتعارض مع النص المقدس، وتتعارض مع روح الإسلام وطبيعته.

تصدر الفتاوى الشاذة التي تمزق وتفرق؛ بناء على جهل مفتيها وعدم أهليته، أو طلبًا للشهرة والظهور، أو رغبة في الانتقام من المجتمع الذي يعيش فيه ويحمله أعباء فشله، ومن هنا نستدل على عدم صوابية هذه الفتاوى وبعدها عن روح الدين وجوهره، إذ الجاهل، أو طالب الشهرة أو الحاقد لا يصلح أحدهم للفتوى التي ينبغي أن تصدر عن عالم متجرد ورع يخاف الله تعالى.

وسبب كل فساد في الفتوى اتباع الهوى، ففتوى الجاهل أو طالب الشهرة أو الراغب في الانتقام من الناس قد حكّم هواه وجعله له قائدًا ودليلًا، ولن يقوده هواه إلا إلى التعصب والشقاق والفرقة والاقتتال. بينما المفتي الحقيقي لا يضع نصب عينيه إلا الحق، متجردًا عن هوى النفس وشهواتها ورغباتها.

إن وجود هذه الفتاوى الشاذة من تلك المصادر غير المؤهلة لها قد أثمر فرقة في المجتمع وتفسخًا، واستنزف طاقات وقدرات المجتمع، وبدّل قوته ضعفًا، ووحدته شرذمة وتشظيًا، وبهذا تخالف مقصد وحدة الأمة التي نادى بها القرآن الكريم بقول الله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) المؤمنون / 52. فوحدة  الأمة مقصد شرعي ضروري ينبغي المحافظة عليه.

وقد حذرنا الله تعالى من الفرقة والتنازع بقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)الأنفال / 46. فالفرقة طريق الضعف، ونلحظ أن الله تعالى لم يقل: "ولا تختلفوا" أي: الاختلاف المذموم، بل قال: "وَلَا تَنَازَعُوا"؛ وذلك لأن الاختلاف سنة كونية -كما ذكرت سابقًا- ولا يمكننا أن نتخلص منه، فعلمنا الله كيف نتعامل معه. أما التنازع والافتراق والاقتتال فهو المرفوض.

وكأن التوجيه الرباني يقول لنا: ستختلفون وإياكم أن يؤدي بكم هذا الاختلاف إلى التنازع والتفرق والاقتتال؛ لأن وحدة الأمة وقوتها فوق كل رأي وفهم بشري، فالفهم البشري إذا أدى إلى الانقسام يُضرب به عرض الحائط؛ لأنه يتعارض مع مقصد الخالق سبحانه وتعالى في وحدة  الأمة وقوتها، وكل حكم وفهم يتعارض مع مقصد الشارع يعتبر باطلًا لا قيمة له ولا وزن.

إذا أردنا أن نكشف زيف الفتوى الشاذة –التي تتعارض مع النصوص المقدسة- لا بد لنا من الرجوع للنصوص المقدسة نفسها، لنفهما كما أراد الله تعالى لنا أن نفهمها، ولا نلتفت للرأي الذي يبعدنا عنها.

إن الفرق واضح بين النص وفهمه، إذ النص –كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- معصوم، وفهم النص وتفسيره –الصادر عن البشر- ليس معصومًا ولا مقدسًا، وبهذا الفرق يتبين لنا سبب الانحراف عند البعض، وهو أنهم جعلوا بعض التفاسير والفهوم البشرية للنص بقيمة النص ووزنه، فظنوا هذا الفهم البشري معصومًا لا يقبل النقاش والمخالفة، والأمر ليس كذلك؛ لأن البشر –عدا الأنبياء- يصيبون ويخطئون، ومهما علت مرتبة الإنسان ومكانته فاحتمال الخطأ وارد عليه، وإلا فنحن نرتقي به لرتبة الأنبياء، وهذا ما لا يقره الإسلام.

من بدهيات الإسلام أن الحكم لله وحده، قال الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) يوسف / 40، فليست الحاكمية لبشر -حتى الأنبياء هم مبلغون عن الله تعالى- فإذا جعلنا كلام البشر كلامًا لا يخضع للنقاش ولا يقبل الخطأ، فنحن ننسب الحاكمية لهم، وهذا أمر مرفوض ويتعارض مع النص الشرعي، بل ساحة الفكر البشري مهما اتسعت ستظل عرضة للخطأ، لذلك كانت الحاكمية لله وحده، وإذا تعاملنا مع كلام البشر على أنه لا يخضع لميزان الصواب والخطأ فنحن نُملِّك بعض البشر رقاب الباقين، وهذا أمر يتعارض مع روح الإسلام وطبيعته التي تحرر الإنسان من سطوة أخيه الإنسان، وتأبى أن تجعله تابعًا لأحد إلا لله وحده.

أما الجاهل فمن مشكلاته أنه يأتي للنص الواحد ويعزله عن أشقائه، ويبني عليه ما شاء من أحكام ستتعارض مع بقية النصوص، لذلك كان من الضروري أن ينظر المتعامل مع النص إلى بقية  النصوص بحيث يوائم ويؤلف بينها، ولا يدع مجالًا للتعارض، فهو يرى بهذا الصورة الكلية الصحيحة والمعبرة. أما عزل النص عن بيئته ومحيطه سيولد تناقضًا بينه وبين سائر النصوص، وستكون الصورة المكونة جزئية لا تعبر عن المضمون الحقيقي.

والمفروض في الفتوى أنها اجتهاد البشر في معرفة الدين والتعبير عن مراد الله تعالى، فهل يصح بحال أن ننظر في نص واحد فقط ثم ننسب إليه مراد الله تعالى؟ إذا صح ذلك فما نقول ببقية النصوص التي تتعارض مع الأحكام التي بنيت على نص واحد، أليست كلام الله، وتتضمن مراده؟  ومثال ذلك، من يكفر العباد والبلاد والحكام بحجة قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة / 44. فالتجاهل في البداية لآيتين مجاورتين هما (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة / 45. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة / 47. لماذا يتغاضى عن هاتين الآيتين ويتمسك بالأولى فقط؟ ولا يخفى أن في الآية عمومين، لا يستطيع الباحث أن يأخذ بهما، فالعموم الأول "من" أي كل، والعموم الثاني "ما" أي كل، فيصير معنى الآية "كل من لم يحكم بكل الذي أنزله الله فهو كافر" وهذا المعنى غير صحيح إجماعًا، فإنه ينافي كون ابن آدم خطّاء، ويوقع صاحب الذنب بالكفر.

أما الحاقد على المجتمع، فهو الذي يريد أن يخرج عُقَده ويصبّها على هذا المجتمع؛ لأنه يحمله ثمرة فشله وفصامه، فبدل أن يجد ويجتهد، يحقد على الجميع ويحملهم مسؤولية فشله، فيصير راغبًا في الانتقام، فيصدر الفتاوى والأعمال التي لا صلة لها بالشرع، ومثال ذلك، اعتماد داعش الإرهابية الحرق كوسيلة لقتل المخالفين والأسرى، وساقت فتواها في ذلك، وهنا أسأل: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم –وهو المبلغ عن الله تعالى- يقول لنا بأحاديث صحيحة: (إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) رواه أبو داود، ويقول: (لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ) رواه البخاري. فكيف يسع الإنسان المنتمي لدينه أن يخالف نصًا صحيحًا صريحًا في المسألة، بل ويخالف مجموع النصوص التي تحض على الرحمة والتسامح والعفو والصفح وحسن المعاملة؟ إنه الحقد إذ يحكم الإنسان، ويصير له قائدًا، وما ذاك إلا اتباعًا للهوى.

أما طالب الشهرة، فهو يستغل الدين ومكانة الفتوى بين الناس ليعلن ظهوره على الملأ، ويصير له مكان بين العلماء على الفضائيات والإذاعات والصحف، فالفتوى الشاذة تنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم، وتسلط وسائل الإعلام عليها كل أضوائها، ومثال ذلك، الفتوى بحرمة الانتخابات على اعتبار أن الديمقراطية نوع من الشرك بالله، ولا يخفى بطلان هذه الفتوى ومناقضتها للثوابت الشرعية في الكتاب والسنة، ولكن صدورها عمن ينسب لأهل العلم لا يظهر منه الجهل أو عدم المعرفة، بل تفوح منه رائحة حب الظهور والشهرة، وفي هذا اتباع ظاهر للهوى.

ويلخص ابن قيم الجوزية الكلام السابق بقوله: "وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد، وكل من له مسكة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، ولا في أمة إلا فسد أمرها أتم الفساد".