رمضان والاقتصاد

الكاتب : المفتي هاني خليل عابد

أضيف بتاريخ : 09-06-2016


 

رمضان والاقتصاد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

في كل عام يكرم الله أمة الإسلام بشهر رمضان، شهر تجلي المكارم الربانية، الذي جعل صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، فلله الحمد والمنّة، وحتى يؤتي الصيام أكله وثمراته جاء التوجيه الشرعي للانتفاع من مدرسة الصيام من خلال تهذيب النفس والروح، وذلك بالامتناع عن الشهوات، وحفظ الصيام من كل ما يفسده من المفسدات المادية كالأكل والشرب، أو المعنوية كالغيبة، وللوقاية من كل هذا جاءت آيات الصيام للحديث عن ضبط القوة الشهوانية بضبط الأكل والشرب، وضبط القوة الناطقة بربط اللسان بالتلاوة والذكر والدعاء.

قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة/185-186، لكن هناك تصرفات من الضروري التحذير منها؛ لكونها تحول دون انتفاع بعض الصائمين من صيامهم، فبدلاً من أن يكون شهر رمضان شهر اقتصاد وتوفير يتحول الشهر الكريم إلى أزمة اقتصادية، فيكثر الشراء، والتفنن في الولائم والإسراف، وزيادة الأعباء المالية على الأفراد والأسر والمجتمعات، ولو أن أمة الإسلام تفاعلت مع الشهر الكريم تفاعلاً حقيقياً، لتعلمت فيه معنى ضبط نفقاتها، ولعادت إلى سيرتها الأولى في قوتها الاقتصادية والحضارية؛ لذا كان من باب النصيحة للمسلين في هذا الشهر التفاعل مع ما يلي:

1- البعد عن الإسراف في المأكولات والنفقات غير المدروسة، كل وقت وحين وخصوصاً خلال هذا الشهر الكريم قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف/31، قال القرطبي: "قوله تعالى: (ولا تسرفوا) أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير" [تفسير القرطبي 7/194].

فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب، حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. وفعلاً فإننا نلحظ أن تناول الطعام بإسراف يصيب صاحبه بالكسل، فيقصر في القيام ببعض حقوق هذا الشهر الفضيل، فتفتر همته عن قيام الليل، ويطول نومه بالنهار، فضلاً عن أنّ في ذلك مخالفة لسنة الحبيب المصطفى صلوات الله عليه، بأن يفطر على شيء يسير من تمر أو ماء ثم يؤدي صلاة المغرب مباشرة، قال أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ) رواه أبو داود.

2- إن الإسراف في الإنفاق على الموائد خلال الشهر الفضيل، يترتب عليه وجود فائض من المواد التي أعدت للأكل، ولكنها لم تستهلك، مما يدفع بأهل البيت للتخلص منها في مكب النفايات وهدرها، وهذا من المفاسد ومن المحرمات، وفيه إضاعة للمال بغير وجه حق، فعنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) رواه البخاري.

3- علينا الانتباه خلال الأكل بأن نبتعد عن كل تصرف يفسد الطعام ويزهد فيه من يعرض عليه بعدنا بسبب إفساد الطعام بتناول جزء منه وترك الجزء الباقي من الطعام، بل نأخذ ما نحتاج إليه؛ ففي ذلك تحقيق الطاعة لله تعالى بالبعد عن الإسراف، وحفظ الأموال، وصيانتها عن الفساد، وحفظها لمن رغب في تناولها من بعدنا إن أعطيت له، لذا نرى الفقيه الكبير محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189ه) في كتابه [الكسب] -وهو من الكتب المتقدمة في الحضارة الإسلامية التي تناولت القضايا الاقتصادية والمحافظة على القوة الاقتصادية للأمة- والذي جاء ليعزز ثقافة العمل والإنتاج والمحافظة على كل سلوك يحمي مال المجتمع، ويعمل على صيانته من التلف والضياع؛ لذا أنقل كلامه لأهميته ولبيان حرص الشرع الشريف على عدم الهدر، ومن التصرفات التي حذر منها هذا العالم الجليل ونص عليه أنه من الإسراف المحرم الواجب اجتنابه، ما يلي:

أ- "من الإسراف أن يضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه من الأكل إلا أن يكون من قصده أن يدعو بالأضياف قوماً بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام فحينئذ لا بأس بذلك لأنه مفيد.

ب- ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه أو يأكل ما انتفخ من الخبز.

ج- ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يتمسح به؛ لأن غيره يستقذر ذلك فلا يأكله، فأما إذا كان هو يأكل ما يتمسح به فلا بأس بذلك.

د- ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها بل ينبغي أن يبدأ بتلك اللقمة فيأكلها؛ لأن في ترك ذلك استخفافاً بالطعام وفي التناول إكرام". [الكسب، ص81 - 82].

"وللصيام حكم وأحكام، يتجلى من خلاله جمال الشرع الشريف، فللصيام فوائد في مجال العبادة، ومجال العلاقات مع الناس، من خلال الشعور مع الفقراء، وفي مجال ضبط النفقات، لذا جاء النص الشرعي بإيجاب الصيام في النهار لا في الليل، فخص النهار بالصوم؛ لأن الأكل فيه معتاد والنوم في الليل معتاد، فلو صام في الليل كان الصوم بدعاء الطبع لا لتعظيم الشرع". [محاسن الإسلام، محمد بن عبد الرحمن، ص21].

أما من يتخذ من رمضان شهر هدر للنفقات، وشهر زيادة الديون، وإضاعة للمال بحجة أن رمضان شهر الجود والكرم،  فنعم رمضان شهر الجود فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ) رواه البخاري، ولكن لا يقبل أن يفهم الجود بالتبذير، فشتان بين الأمرين، فالجود ليس معناه التبذير وما أجمل التفسير الشرعي للجود فالجود في الشرع: "إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة". [فتح الباري لابن حجر العسقلاني/ 1 /31]. وبهذا يتضح أن الجود هو التبرع بسخاء نفس فيما يستحق أن ينفق عليه، وهذا يرتب ضبط النفقة، وفعل ما فيه مصلحة للناس من سد جوعتهم، وقضاء حوائجهم، وتقوية اقتصادهم، والحذر كل الحذر من الإسراف المضيع للأموال فلا يقبل أن يشرعن الهدر وافتعال الأزمات الاقتصادية في موسم الخير والبركة شهر رمضان، فلنعد لعبادة الصيام جوهرها بتطبيقها ضمن مقاصد الشرع الشريف، والحذر من كل تصرف يعطل مقاصد العبادات. والحمد لله رب العالمين.