سر المولد في عام الفيل

الكاتب : عطوفة الأمين العام الدكتور أحمد الحسنات

أضيف بتاريخ : 10-11-2019


سر المولد في عام الفيل

 

كانت البشرية على موعد عظيم غير وجه التاريخ ووجه العالم كله، موعد تمثل بيوم عظيم هو من أعظم أيام الدنيا؛ اليوم الذي برز فيه النور المحمدي إلى هذا الكون فأضاء ظلماته.

فالبشرية كانت في ظلم وظلمة، فقد عم الشرك والكفر، وانتشر القتل والاضطهاد وبلغ الجهل ذروته، فكان لا بد من حدث يغير هذا التاريخ، ويعيد للإنسانية إنسانيتها وكرامتها التي انتهكت؛ فكان أن بُعث رسول الله محمد صلوات ربي وسلامه عليه.

والأحداث العظام يُمَهَّدُ لها عادة بأحداث عظيمة أيضا لتبرزها وتجليها، وكانت هناك أحداث عظيمة مهدت لبروز هذا النبي وحضور هذا الرسول الكريم وتشريفه للأكوان كلها علويها وسفليها، فما من عالم علوي ولا سفلي إلا وقد تشرف برسول الله صلى الله عليه وسلم، والإرهاصات والتي أعني بها الأحداث التي سبقت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، وسأقف مع واحدة منها والتي كانت تشعر بحدوث أمر واقتراب أمر عظيم، وهي حادثة الفيل.

يوم أن حاول الشقي أبرهة الحبشي أن يهدم الكعبة المشرفة قبلة العالم في ذلك الزمان، فالكعبة لم تكن قبلة لأهل الجزيرة العربية من العرب فقط، بل كانت قبلة للعرب ولكل الموحدين في ذلك الوقت ممن كانوا على الحنيفية السمحة على دين إبراهيم وإسماعيل، وعلى دين العرب كلهم مشركهم وموحدهم، كانت تهوى قلوبهم الكعبة المشرفة، فكانت المعجزة أن تولى الله الدفاع عن بيته كما قال عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم: "للبيت رب يحميه" فحمى رب البيت بيته، فأرسل طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فكان هذا الحدث العظيم الذي جعل أولئك الذين قدموا ليهدموا بيت الله في الأرض كعصف مأكول، هذا الأمر كان خارقا للعادة  لم يجر على سنن العادات، فأهل مكة قد استسلموا لواقع الأمر ولم يستطيعوا أن يدفعوا هذا البلاء عنهم فخرجوا إلى أعالي الجبال ينظرون ويترقبون ولم يخطر في خلد أحدهم أن تنجوا الكعبة من الهدم، اللهم إلا عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: للبيت رب يحميه؛ فهل كانت هذه الحادثة في ذلك الوقت محض صدفة  أم أن لها دلالات ومعاني؟ والذي أراه أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يوثق العام الذي سيولد فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لو لم تكن تلك الحادثة ما عرف أحد متى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد في العام الذي يظهر فيه رسوله صلى الله عليه وسلم حدثا عظيما يتذكره كل الناس بعد ذلك، ولم يكن للعرب تأريخ يؤرخون به في ذلك الوقت فبم يؤرخون؟ فأراد الله تعالى أن تكون لهم بداية تأريخ فكانت بداية تأريخهم عام الفيل، فكانوا يقولون: قبل عام الفيل بعام وبعد عام الفيل بعام حتى إذا ما قيل: متى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقال: ولد عام الفيل.

هذا أول مغزى من مغازي هذه المعجزة، أن يوثق الله سبحانه وتعالى العام الذي سيولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا أول احتفاء من الله برسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن كثير: "هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة، ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم أنوفهم وخيب سعيهم وأضل عملهم، وردهم بشر خيبة...، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء". [تفسير ابن كثير].

الأمر الثاني في حادثة الفيل، أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين للعرب خاصة وللناس عامة أن هذه المعجزة التي تخرق قوانين الأسباب المادية والعادية كلها تقدم لمعجزة وحدث أعظم وأجل سوف يأتي؛ فكان مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك أمر آخر أيضا ألا وهو أن الله سبحانه وتعالى يريد للناس أن ترجع إلى عبادته، وتبحث عن سر الوجود وحقيقة الخلق، فعندما عجز العرب كلهم عن محاربة جيش الفيل، وكانت حادثة الفيل هي الحدث الأضخم على مستوى الدول العظمى في ذلك الوقت لارتباط الحبشة بعلاقات تجارية وعسكرية مع دول الفرس والروم، ولما للعرب من ولاءات مع هاتين الدولتين، ولما لمكة من تعظيم عند العرب، ولاستخدام الجيش للفيلة وهذا الحدث أول مرة يحدث في جزيرة العرب أن تغزوها الفيلة، فكل ذلك لفت نظر العالم كله لهذه المعجزة، وعزز مكانة العرب عامة  وعبد المطلب  خاصة في نفوس العالم كله، فعندما تيقن العالم بهزيمة العرب وهدم بيت الله واستيئس العرب وأيقنوا أنهم هزموا، ويئس الكفار من أصنامهم، لجأوا إلى الله وحده بالدعاء ويتجلى ذلك بقول عبد المطلب لرسول أبرهة عندما جاءه يطلبه لمقابلة أبرهة لأنه أعظم قريش جاها ومكانة: "والله ما نريد حربه ( أي أبرهة) وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلِّ بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه".

فكان ذلك مدعاة لمعرفة حقيقة وجود إله أعظم من الآلهة التي يعبدون ولها يخضعون، فسخر الله لهم جنودا لم يعرفوها ولم يعرفها أحد من قبل، وجاءهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وأعلى الله كلمته وحمى بيته، ورفع مكانة العرب عامة وقريش خاصة وخص من قريش جد النبي عبد المطلب ورفع قدره عند جميع الأمم لأنه لم يتخلّ عن ثباته ولم يترك بيت الله تعظيما له ولحرمته، فقال عبد المطلب لقريش: لا أبرح البيت حتى يقضي الله قضاءه، فقد نبأني أجدادي أن للكعبة رباً يمنعها،...وهذه الجنود جنود الله" [تفسير مقاتل بن سليمان].

 وعن ابن شهاب قال: "أول ما ذكر من عبد المطلب أن قريشا خرجت فارة من الحرم خوفا من أصحاب الفيل، وعبد المطلب يومئذ غلام شاب، فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره، فجلس في البيت وأجلت قريش عنه فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم فيهم بصبره وتعظيمه محارم الله عز وجل" [شرح نهج البلاغة ابن أبي حديد]. 

حتى إذا بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم العربي الهاشمي لم يستغرب أحد ذلك فهو حفيد عبد المطلب سيد قريش الذي برزت سيادته وعرف عنه ما عرف من تعظيم لشعائر الله، وهو الذي برز له الشرف الديني من خلال تعظيمه لبيت الله وحفره لزمزم كما جاءه في رؤياه.

وحتى لا ينكر أحد من غير العرب عليه أنه ليس منهم لما برز من عظيم مكانة العرب يوم الفيل بحماية الله لهم ولبيتهم من كل جبار عنيد، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "وَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ عَظَّمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا، وَقَالُوا: هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ مَئُونَةَ عَدُوِّهُمْ" [تفسير القرطبي].

فكل هذه المعجزات والالتفاتات جاءت تبشر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءهم بالخبر من الله سبحانه وتعالى لم يكن لهم حجة في إنكار نبوته فلسان الحال يقول بما أنكم رأيتم كيف خرق الله سبحانه وتعالى الأسباب المادية يوم الفيل فلا بد من إله عظيم قادر على هذا الخرق ولا يمكن لهذا الإله أن يكون صنما بل هو إله قادر حي وهو الذي بعثني إليكم بهذه الرسالة، قال القرطبي: "قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَقَبْلَ التَّحَدِّي، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَوْكِيدًا لِأَمْرِهِ، وَتَمْهِيدًا لِشَأْنِهِ. وَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ، كَانَ بِمَكَّةَ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ شَهِدَ تِلْكَ الْوَقْعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَلَمْ تَرَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ رَأَى قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِقَهُ أَعْمَيَيْنِ يَتَكَفَّفَانِ النَّاسَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهَا: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِقَهُ أَعْمَيَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: رَأَيْتُ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوًا مِنْ قَفِيزَيْنِ من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة" [تفسير القرطبي].

فبمولده صلى الله عليه وسلم ولد للكون عهد جديد وبمبعثه بُعثت أمة، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمي أمة،  أمة امتازت بالعلم والحضارة والرحمة والكرامة والعزة والريادة، أمة تفوقت على جميع الأمم وتفوقت على الإنسانية كلها في جميع المجالات.

فما عاد العالم بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان قبله، ولن يعود العالم إلى ما كان عليه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى  لما أرسل رسوله وأنزل رسالته عليه قال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فسيظهر دين الله على الدين كله، مهما استخدم أعداء الله من قوة لمحاربته وتشويهه ومهما اختلف أسلحة الأعداء ومهما تنوعت، فكما استخدم أبرهة الحبشي أسلحة وقوة لم يعرفها العرب في حروبهم لهدم بيت الله ولمحاربة ما عظم الله، فلجأ العرب  لله واعتصموا به فأيدهم الله بجنود لم يعرفها أحد قط،  فمتى ما توحدنا ولجأنا لله ورجعنا لسنة نبيه نصرنا الله بجنود من عنده كما نصر العرب على أصحاب الفيل.