الروحانية في الإسلام

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 15-04-2014


سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

الإنسان الأول آدم، وهو المخلوق الذي أبرز الله إرادته ودلائل قدرته في كيانه، ليس من الملائكة ولا من الجن، ولا من العوالم الأخرى التي عرفت آنذاك.

وإنما هو من زوده الله بطاقات تؤهله للإطلاع بالهمة والنهوض بالمسؤولية التي خُلق لها. يُبتلى بالضرائر وتصطرع في داخله الانفعالات والدوافع، ويُمنح العلوم والمعارف، ويضرب في فجاج الأرض إذ من ترابها يُخلق، وعلى ظهرها يعيش ويُرزق، وفي بطنها يُدفن، منها يُبعث وله اليوم الآخر، ومن أجله خُلقت الجنة والنار، ومجال عمله ومحك اختباره في دنياه، والعوالم مخلوقة من أجله، وملائكة الله يقومون بأمره ليل نهار، وعمره على وجه الأرض يُقاس بدورة الفلك وأفول الشمس وبزوغ القمر، خليفة عن الله في أرضه بأمره ويسجل ذلك في آخر كتبه تنزيلاً على خاتم رسله.

قال الله تعالى في شأن آدم أبي البشر: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) الحجر/29.

إن هذا تكريم للإنسان، وسمو بمكانته إلى آفاق عليا، فهو بهذه النفخة من روح الله التي سرت في كيانه فمنحته الحياة العالية الكاملة، قد أصبح خلقاً متفرداً بصفات تؤهله لخلافة الله في الأرض، وقد شاءت الإرادة العليا أن تُسَلِّم زمام الأرض لهذا الكائن الجديد الذي وفد عليها ليغمرها بالخير، ويعمرها بالإصلاح والتجديد.

وقد استطاع الإنسان بهذه النفخة المباركة من روح الله، وبهذه النفخة العلوية التي لابسته أن يكشف ما في الحياة من نواميس وأسرار، وأن يفجر طاقاتها الكامنة، ويكتشف كنوزها المذخورة، وبذلك استطاع أن يحقق مشيئة الله في قيادة الحياة، وأن يقوم بالمسؤولية الضخمة التي ناطها الله به ووكلها إليه. ثم أن علَّم الله آدم الأسماء كلها، ودخل مع الملائكة في امتحان ورجحت فيه كفته، فقد وهبه الله من العلوم والمعارف.

ولا بد أن نفرِّق بين الروح وبين الروحانيات كما وردت في اللغة العربية:

قال الفراء: الروح هو الذي يعيش به الإنسان (أي الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة).

ولم يخبر الله تعالى به أحدًا من خلقه، ولم يُعط علمه أحدًا من عباده. قال الله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً( الإسراء/85.

أما بالنسبة للروحانيات فقد روى الأزهر عن أبي العباس أحمد بن يحيى أنه قال في قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنا(الشورى/52، قال: هو ما نزل به جبريل –عليه السلام- من الدين فصار تحيا به الناس أي يعيش به الناس . وهذا يدل على أن الروحانيات تعني الإيمان.

والإيمان في الإسلام هو الاعتقاد الجازم، وأركانه: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقضاء والقدر، قال الله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير) البقرة/ 285.

ومظاهر الروح المدبِّرة في الإنسان هما: العقل والقلب، ولكلٍ منهما مقومات خاصة، وسلطان خاص، فمقومات العقل: العلوم، ومهمته النظر والتمحيص لإدراك الواقع.

ومقومات القلب: الشعور الفيّاض، والعواطف الكريمة، ومهمته تجلية الجمال في كل شيءٍ، وإقامة الكمال كفاية قصوى للحياة.

والإنسان بين هذين المظهرين الروحيين يطلب إليه أن يقوم على حال تمكنه من الإستفادة منهما، وتجنبه التدافع بينهما ليصل إلى أرقى ما أعد له من منازل الكرامة، ومكانات الرفعة، وليعيش عيشة الحاصلين على السعادتين معاً.

وقد شُوهد من استقراء أحوال المجتمعات المختلفه في خلال العصور أن الأمم لا تقوم على طريق الحياة الصحيحة إلا إذا تعادل فيها هذان المظهران الروحيان(القلب والعقل)، فإن طغى أحدهما على الآخر اضطربت أحوالها على مقدار نسبة ذلك الطغيان، وتعرضت للعقوبات الإلهيه.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا تغذى العقل بلباب العلوم فأصبح قويم النظر في الأمور، مدركًا للواقع على ما هو عليه، ألا يكفي ذلك في إقامته على صراط الحق المستقيم، ويكون من لوازم ذلك كل ما نسبتموه إلى القلب من الشعور وكمال العاطفة وإدراك الجمال وتَطَلُّب الكمال المنشود؟

نقول: لا، وهذه بعينها شبهة الذين وقفوا التربية على العقل وحده من أصحاب المذهب الحديث في التعليم، فقصروا التدريس على العلوم، وأهملوا تربية القلب جانبًا، فكان أثر ذلك أن بطل التعادل بين العقل والقلب، فإن كان شيء يُبطل هذا المذهب فهو ما نشاهده من حال الجيل الذي نشأ هذه التنشئة، إذ قل اعتداده بالآداب النفسية؛ بل منهم من اتخذ الإباحية مذهبًا له، وأخذ يدعوا إليها في عبارات تحتمل وجهين.

وهي بجملتها وتفصيلها ترمي إلى إحلال الملاذ البدنية المكانة العليا من النفوس، فكل ما يصدر من ثمرات العقول اليوم، ويباع من مطبوعاته الملايين يرمي إلى تقديس الأهواء النفسية، والجري وراء الميول.

العالم اليوم بحاجة إلى ثقافة روحية، والعودة إلى الروحانيات، وإلا فإن النتائج خطيرة، وتزداد سوءً يوما بعد يوم، خاصة وأن العالم المادي أصبح تحت تأثير اعتقاد جازم بأن تقدمه المادي المطرد قد بلغ مرتبة الكمال؛ ولكن أحداث العام الأخيرة قد بدلت هذا الاعتقاد.

فالرقي المادي الذي وصل إليه العالم لم يُؤت ثمرته الفعلية من إسعاد الناس؛ بل على العكس جلب التعاسة والخراب الناجمين عن الحروب المتلاحقة، وزد على ذلك العنف والإرهاب والتطرف... كل هذا يدل على إفلاس الحضارة المادية الخالية من القيم الروحية.

فنسيان الروحانيات أو إنكارها سيؤدي إلى مآسي كبيرة قد لا يتحملها الإنسان؛ لأنه سيعيش في حيرة، وصراعات فكرية، وتخبط لا يعرف الهدوء أو الراحة. سيبقى مالّاً متضجراً في بيته، ومع أبنائه، وزوجه، وأصدقائه، وطلابه، ومع معلميه ورؤسائه...الخ. وسواء أكان غنيًا أم فقيرًا...السبب في ذلك لأننا أهملنا الجزء الروحي.

فالإنسان يتكون من عنصرين رئيسيين هما: عنصر مادي ينمو ويتحرك، يأكل ويشرب وينام ويركب ويقعد.

ثم جوهر بُرئ من المادة، له تلك المظاهر الخاصة من تفكير وعلم وإرادة وحب وبغض وخلق كريم أو خلق ذميم.

فالأديان السماوية توازن بين هذين العنصرين ويجب أن يكون الاتزان دقيقًا كي لا يطغى أحدهما على الآخر، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) الانفطار/ 6-7. فالسوي لا يبتعد عن الصراط المستقيم، قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات/ 37-38-39-40-41.

فالجانب الروحي الذي يستأثر الله تعالى بحقيقته وعلمه هو المحدد الرئيسي لفعلية ونشوء حياة الأنسان، فالروح هي وعاء الفطرة السليمة، أو مستودع النفخة الإلهية التي لا تنفك عنه، تبث في الإنسان عناصر الخير والصلاح، وتنفره عما لا يليق به، وتوجهه إلى ما يجب أن يكون عليه.

قال الله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين) الحجر/ 29. وقال الخالق عز وجل: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه) السجدة/ 9. أي سويت خلقه وصورته وجعلته إنسانًا كاملًا معتدل الأعضاء، أفضت عليه من الروح التي هي خلق من خلقي، فصار بشرًا حيًا، وإنما أضاف الروح إليه على سبيل التشريف والتكريم، ونفخ فيه الروح فإذا هو في أكمل صورة وأحسن تقويم.

قال المفسرون: وأضاف الروح إليه تشريفاً للإنسان، وإيذاناً بأنه خلق عجيب وصنع بديع، وأن له شأناً جليلةً مناسبةً إلى حضرة الربوبية.

ولذا يجب الربط بين الجانب الروحي وبين الجانب المادي، ولا يجوز فصلهما.

وعلى الإنسان الاهتمام بالجانب الروحي ودرجة التدين والارتباط بالخالق جل شأنه، إذ أن الروح من أمر الله ومؤشر أصيل إلى وجوده ودعوة فطرية إلى الاستعانة به والاتكال عليه قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء/ 85

وهذه الحقائق من شأنها أن توصل إلى نتيجة كلية مفادها: أن الإيمان هو عنوان الروح وملمحها الفعال ودلالتها المبتغاة بصورة أساسية دائمة.

ولذا جاء القرآن الكريم بتشريع روحي قوامه الإيمان بالله، والتحقق بمعرفته معرفة حقيقية لا يأتيها الشك تسمو بالمرء، وتجعله فرداً صالحاً في المجتمع الإنساني، وتنقذه من الأزمات النفسانية التي تجتاحه جراء جهله سر هذا الكون.

حقاً إن الإيمان هو سكينة النفس القلقة، وهداية القلوب الضالة، ومنار السالكين الحائرين، وأمان الخائفين، وهو المعين القوي الفياض الذي تستمد منه الإرادة القوية سر قوتها؛ لأنه الأساس لجميع الفضائل من الصبر والعزيمة والثبات والرحمة والمودة والحنان والكرم والعزة والكرامة.

ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مكث فترة كبيرة من صدر الإسلام يُوجه الناس إلى العقيدة، ويُرسي قواعد الإيمان في نفوس متبعيه، حتى إذا رسخت جذور العقيدة في نفوسهم، وثبتت أصولها، وأشرقت بنور ربها، جاءه الوحي بالتكاليف الأخرى والتشريع بعد أن هذب الإيمان نفوسهم وجعلها أرضاً طيبة صالحة لأن تكون مصدر خير وسعادة لمجتمعهم، ولبنة طيبة لتلقي التوجيه والإرشاد بما في قلوبهم من إيمان متأصل قد أحاطه الله بالأخلاق الفاضلة المهذبة للنفوس.

بعد هذه المعطيات نخلص إلى أن الروحانيات في الأديان السماوية تؤدي إلى حب الله وحب الأنبياء والرسل وحب البشرية جمعاء، والحب الصادق سيؤدي إلى ازدهار أي مجتمع في العالم، بل سيأخذ المجتمع القوي بيد المجتمع الضعيف حتى ينقذه من الضعف إلى القوة وهذه هي السعادة الحقيقية التي تسعى إليها الأديان.

ونستنتج أنه لا يمكن الوصول إلى المحبة العامة للإنسانية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) إلا عن طريق الاهتمام بالروحانيات التي جاءت في الأديان السماوية. والعمل على تقويتها وإزالة أي خلاف بينها، عندئذٍ تشعر البشرية جمعاء بالسعادة.

 

* أصل هذا المقال مداخلة لسماحة الشيخ عبدالكريم الخصاونة في ندوة الحوار الإسلامي المسيحي عن الروحانية في الديانتين الإسلامية والمسيحية المنعقدة في الولايات المتحدة الأمريكية.