المفتي من أفتاك بما ينجيك ..لا بما يرضيك

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 01-02-2010


 

 سماحة المفتي العام: الدكتور نوح علي سلمان

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين:

 

من مظاهر الصحوة الإسلامية -التي تفرض نفسها ولا تستأذن أحداً- إقبالُ المسلمين على معرفة أحكام الشريعة الإسلامية ليعملوا بموجبها؛ لأن مما يعرفه كل مسلم أن الإيمان لا يكمل إلا بالعمل الصالح، والصالح ما وافق الشريعة الإسلامية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). والذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يشمل كل نواحي الحياة العامة والخاصة.

هذه القناعات العقدية الصحيحة هي التي تجعل المسلمين يسألون عن الحكم الشرعي في كل شؤون حياتهم، إلى جانب قناعة أخرى تتلخَّص في أن السعادة في الدنيا والآخرة متوقفة على طاعة الله، وأن الشقاء فيهما مترتب على معصيته، وهي قناعة أكدتها الوقائع المشاهدة، ونص عليها كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال الله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه/123-124، ومن المسلّم به عند الباحثين أن الله ما أمرنا بشيء إلا وفيه خير لنا في الدنيا قبل الآخرة، وما نهانا عن شيء إلا وفيه ضرر في الدنيا قبل الآخرة، ولاحظ الآثار الحسنة المترتبة على فريضة المحافظة على المال العام، والآثار السيئة المترتبة على جريمة نهب أموال الأمة، والأمثلة لا تحصى..

ولذا فإن الفقهاء إذا ثبت لديهم نفع عام أو خاص في أمر لم يرد فيه نص شرعي أفتوا بوجوبه أو إباحته على الأقل، وإذا ثبت لديهم ضرر في شيء قالوا بحرمته؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا ضرر ولا ضرار)، ومن هنا جاءت القاعدة المشهورة: "كل ما ثبت في الطب ضرره؛ أثبت الشرع تحريمه".

ومقارنة سريعة بين حال الأمة وهي متمسكة بقول الله تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) آل عمران/103، وبين حالهم اليوم وقد تنازعوا فحلَّ بهم ما حذر الله منه بقوله:(وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/64، مقارنات كهذه جعلت الأمة تصحو وتُقبل على دينها بعد أن ركضت طويلاً خلف مبادئ وافدة، فما جنت منها خيراً، بل أثخنتها الجراح.

وتحوُّلُ الشعوب يحتاج إلى زمن، لكن كل آت قريب إن شاء الله، أما تحول الأشخاص بصور مفاجئة فله قصص متعددة، أتمنى لو جمعها كاتب مؤمن رشيق القلم -على غرار كتاب "التوابون" الذي تحدث عن بعض من تابوا في أزمان سابقة- ليكون كتابُه إضافة إلى قافلة الخير في ظروف جديدة، فأولئك تابوا وكلُّ مَن حولهم يشجعهم فانسجموا مع المجتمع، وهؤلاء تابوا وسبحوا عكس التيار فكانت عزيمتهم أمضى، وإرادتهم أقوى، ولذا لا تستغرب أن يكون للواحد من هؤلاء (أجر خمسين) من أولئك (رواه أبو داود والترمذي)؛ لأن السلف كانوا يجدون على الحق أعواناً، وهؤلاء لا يجدون، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أطلعه الله على ما سيكون في مستقبل أمته، فقال:(بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء... الذين يصلحون إذا فسد الناس) رواه الإمام أحمد وأوَّله في صحيح مسلم.

ولا يحزننّك هذا، فقد أخبر أيضاً أن الدنيا سوف تملأ قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً (رواه الإمام أحمد وأبوداود وغيرهما)، وحسبك قول الله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) التوبة/33، وقد ظهر الإسلام، لكن ليس على الدين كله، وهذا ما سيكون.

إن الذي يقرأ بيقين قول الله تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)الزلزلة/7-8، تتولد في نفسه وتظهر من تصرفاته أشياء كثيرة تدعوه لفعل الخير، والكف عن الشر.

لكن كيف يعرف الخير من الشر؟ لا بد أن يسأل المفتي، فمن هو المفتي؟

المفتي:هو الذي يبين حكم الله فيما يُسأل عنه من تصرفات الناس، وهنا ندخل إلى حقل واسع له ضوابط علمية دقيقة لا يتسع المقام لشرحها، لكن أذكر معالم هذا الموضوع:

حكم الله:هو الوصف الشرعي لأفعال الناس فيقال: هذا واجب، وهذا حرام، وهذا سنة، وهذا مكروه، وذلك مباح.

ولكل لفظ من هذه الألفاظ معنى؛ فالواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وبعكسه الحرام؛ إذ يثاب تاركه ويعاقب فاعله.

وهذه الأوصاف الشرعية لا بد عليها من دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة، أو القياس... إلى آخر الأدلة التي اعتمدها العلماء، وهي مرتّبة؛ فالاعتبار الأول لكتاب الله تعالى، ثم للسنة، ونظراً لكثرة قضايا الناس، فقد تضافرت جهود الفقهاء كي يضعوا لكل تصرف حكماً شرعياً.

ومن أجل أن نتصور عدد هذه القضايا بشكل إجمالي علينا أن نتذكر أن المجتمع الإسلامي كان يرجع إلى الفقهاء في كل الشؤون العامة والخاصة على مدى أربعة عشر قرناً، ولعلنا نذكر أن العالم الجليل العز بن عبد السلام رحمه الله أفتى السلطان قطز بأن يأخذ من أموال الأغنياء ما يواجه به جيش التتار، لكن بعد أن يكافح الفساد لدى المتنَفِّذين، ويرد المال الذي أخذ بغير حق إلى خزينة الدولة، وفعل ذلك قطز، وانتصر في (عين جالوت).

كما أفتى الفقهاء في قضايا العبادات والمعاملات والعقوبات وشؤون الأسرة والعلاقات الدولية.... إلخ، فمن أراد أن يكون فقيهاً يفتي الناس لا بد له من الاطلاع على ما تمس إليه الحاجة من هذه الأحكام، وعلى الدليل الشرعي لكل حكم ليستفيد من بحوث السابقين، وتتكون لديه ملكة فقهية يعرف بها كيف يعالج القضايا الجديدة، وهذا هو الشأن في كل العلوم، وهو المقصود من تدوين الكتب، ليستفيد اللاحق من علم السابق.

وعلوم الشريعة تُصَنَّف في زمرة العلوم الإنسانية، بمعنى أنها تعالج قضايا الإنسان، وهي متعددة، ومتجددة، ومتنوعة، بحسب الأشخاص والأزمان والظروف؛ ولذا لا يمكن الإحاطة بها، فكان الأسلوب الصحيح في تعلمها أن تعرف القواعد، وتتقن أمهات المسائل، ثم تنزل الحوادث الجديدة على القواعد والأصول، وهذا ما عليه الفقهاء المتقنون لعلمهم ليكون الحكم صحيحاً منجياً عند الله لمن عمل به.

والفقه في هذا لا يشبهه علم آخر، وأقرب ما يكون إليه -في التعامل مع الإنسان- علم  الطب، وكثيراً ما تعقد المقارنة بينهما، باعتبار أن الفقه يحرص على صحة الأديان، والطب يحرص على صحة الأبدان، ومع ذلك يبقى الفارق كبيراً، فالطب مهما تقدم يصل إلى مرحلة لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً، كما قيل: "حار الطبيب وخانته العقاقير". أما الفقه فثمرة العمل به السعادة الأبدية، قال الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) الكهف/107.

ثم إن نجاح الطبيب تترتب عليه مصلحة المريض، وهو أمر مهم جداً لا يستهان به، لكن نجاح الفقيه تترتب عليه سعادة المجتمع كله، وكيف سيكون حال المسلمين لو عملوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).

لكن الناس نظراً إلى أن إيمانهم بالحاضر أشد من إيمانهم بالغيب، يسمعون ويطيعون للأطباء، أكثر من سمعهم وطاعتهم للفقهاء!! فهم إن خالفوا الطبيب خافوا الموت، وان خالفوا الفقيه قيل لهم:(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وينسون (أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)!! والحرص على الحياة الدنيا غريزة في الإنسان لا يلام عليها، لكن الحرص على السعادة في الآخرة هي مقتضى الإيمان.

على أي حال فإن الطبيب الحق، هو الحاذق الذي يشخّص الداء ويصف الدواء، بغض النظر عن الاعتبارات الشخصية للمريض؛ لأن نجاته تتوقف على ذلك بحسب سنة الله في خلقه، أما الذي لم يتقن علم الطب، والذي يجامل المريض؛ فلا يطلعه أو يطلع أولياءه على الحقيقة، أو لا يصف له الدواء المناسب إن كان مراً، أو طريقة العلاج المثلى إن كانت مزعجة، فالطبيب الذي يفعل هذا لم ينصح مريضه، بل إن الطبيب المشفق يعمل بالاحتياط خوفاً على حياة المريض.

وهكذا يقال في المفتي: عليه أن يحتاط في الفتوى خوفاً على دين السائل، أما الذي يتصدى للفتوى دون أن يتقن علم الفقه فليس بمفتي، والعمل بقوله لا يُنجي عند الله، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يفتي بغير علم، ومع الأسف وقع المحذور هذه الأيام فرأينا من ليس بمسلم يقول في الدين ما يروق له، ورأينا من يدعي الإسلام وهو غير ملتزم به، ورأينا يدعي الاجتهاد... إلخ.

وهؤلاء جميعاً لا ينفعون يوم القيامة مَن اتبعهم، قال الله تعالى عنهم:(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) النحل/25، أما قولهم: "قلِّد عالماً تكن سالماً" فذلك في حق من توفرت فيه صفات العلماء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ومن على شاكلتهم من علماء الآخرة.

أما الذي يحرف شريعة الله، ويخالف صريح القرآن أو السنة أو إجماع المسلمين، ويفتي بأقوال ضعيفة أو شاذة ليس لها دليل طلباً للشهرة، أو استرضاءً للناس، أو رغبة أو رهبة، فهذا لا يؤخذ بقوله، ولا يقلَّد في دين الله.

قال الله تعالى:(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الأعراف/3، والذي أنزل من الله هو القرآن والسنة وما استند إليهما من الأدلة، وقد ابتلينا هذه الأيام بمن يخالف صريح القرآن؛ مجاراة لروح العصر - فضلاً عمن يخالف السنة بحجة أن في الحديث مقالاً، مع أن السلف من الفقهاء ارتضوه وعملوا به وهم أقرب إلى عهد الصحابة والتابعين - وأسوأ منهم مَن يخالف الحديث الصحيح؛ لأنه يراه مجافياً لروح الشريعة ومقاصدها، وهل الشريعة إلا الكتاب والسنة؟! وكذا من يخالف النص بدعوى الاستحسان ومراعاة المصالح... إلى آخر ما نسمعه مما يفتريه المتهاون بأمر الدين، ويضحك منه -كمداً- البصيرُ بشريعة الله تعالى، و"شر المصيبة ما يضحك". وقد اجمع الفقهاء الذين اتفقت الأمة على جلال قدرهم على أنه: "لا اجتهاد في مورد النص"، وأنّ مقاصد الشريعة وروحها يُرجع إليهما حيث لا نص.

ولاحظ كيف يتنطعون في تضعيف الحديث أو تأويله إذا تضمن حكماً يخالف عادات المجتمع، وكيف يسكتون على الأحاديث الضعيفة إذا تضمنت حكماً له قبول بين الناس؟!

لقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف/29، وهذا ليس تخييراً بل تهديد؛ فإن الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه (أن يقول الحق ولو كان مراً، وأن لا تأخذه في الله لومه لائم) رواه الإمام أحمد وغيره. وبهذا عمل السلف الصالح؛ فالأئمة الأربعة والكثير من تلاميذهم أوذوا في سبيل الله؛ لأنهم أصروا على كلمة الحق وبيان صريح الشريعة الإسلامية، وقصصهم في ذلك معروفة.

نعم إن طلب الأذى ليس مقصداً شرعياً، لكن إذا فُرض على الفقيه فليصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا) رواه البخاري ومسلم.

إذن فليس بكثير أن يتطاول المغرضون وغير المختصين بالعلوم الشرعية على العلماء المتقنين لعملهم، المقدّرين لخطورة مهمتهم، وأن يصفوهم بالتشدد والجمود... إلى آخر القائمة، فهذه ضريبة اتّباع الحق الذي لا ينجو بغيره أحد عند الله، وضريبة الحرص على دين المسلمين ونجاتهم عند الله، فالمفتي الذي يبين الحق ينجو بنفسه عند الله، وينجو مَن اتّبع فتواه، والذي يجامل في أمر الدين ويحرص على رضا الناس ليس بعالم أصلاً، ولا يسمى مفتياً؛ لأن المفتي هو الذي يبين حكم الله، وهذا لم يبين حكم الله بل جهله أو كتمه، وكلاهما في النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ في الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ) رواه الترمذي وغيره.

وهذا ينطبق أيضاً على المفتي؛ لأن كلاًّ منهما يُبَيِّنُ حكم الله، وقد قال الله تعالى:(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) الزمر/60.

وهذا الذي جعل الكثير من أهل العلم يأبون تولّي القضاء والإفتاء؛ فإن القضاء والإفتاء فرضا كفاية؛ فإذا وجد من يقوم بهما لم يجب على غيره التصدي لهما.

بقي أن نقول إن التطاول على مناهج الفقهاء ليس في كل ديار الإسلام، بل في بعض بلاد أهل السنة، ومن أشخاص لهم مقاصد مختلفة لا تنفعهم بين يدي الله، أما جماهير المسلمين فقد جعل الله في قلوبهم نوراً يعرفون به الحق من الباطل، والمخلص من المغرض، ونختم بما به بدأنا فنقول: "المفتي من أفتاك بما ينجيك.. لا بما يرضيك".