ما يوم الكرامة بِسِرٍّ

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 21-03-2013


 

تقول العرب: "ما يوم حليمة بِسِرٍّ"؛ فقد كانت فيه معركة أشهر من أن يُكتم خبرها، ونحن نقول: "ما يوم الكرامة بِسِرٍّ"!

فكلما جاء اليوم الحادي والعشرون من شهر آذار، ترجع بنا الذكرى إلى يوم مجيد في تاريخ الأمة العربية عامة، وتاريخ الأردن بشكل خاص، فقد كانت فيه معركة الكرامة الذي انتعشت فيه الآمال، وعادت الثقة بالأمة الماجدة، أمة الخير والنصر والرحمة.

لقد سبق ذلك اليوم أحداث صعبة جعلت البعض يشك في نفسه وفي أمته؛ ففي تاريخنا المعاصر وقعت معارك بيننا وبين خصومنا لم تكن نتائجها كما ألفناه في تاريخنا الطويل، ولم تعهده أمتنا في مواجهاتها مع خصومها، ونسي البعض أن تحقيق النصر له مقدمات، إذا لم تتوفر فلا غرابة أن تأتي النتائج على غير المألوف.

ومن هذه المقدمات: أن تكون الأمة يدًا واحدة وصفًّا واحدًا في مواجهة العدو.

ومنها: أن تكون الوسائل المادية للقتال موجودة، ولو بحدها الأدنى في نظر الخبراء العسكريين.

ومن أهم أسباب النصر: المعنوية العالية التي لخصها أسلافنا بقولهم: "المنية ولا الدنية".

وهذه الأسباب لم تكن متوفرة في بعض المعارك التي خسرناها؛ فلا غرابة أن تخسر المعركة أمة متفرقة، ولا غرابة أن تخسرها جيوش لا تمتلك العدة الكافية، أما المعنوية العالية فهي حالة نفسية لا يمتلكها من يستخف بعدوه، ولا يعد العدة للقائه، ولا يمتلكها من يضخم صورة عدوه حتى يراه القدر الذي لا يهزم.

كانت معركة الكرامة في (21/آذار/1968م) قد سبقتها معركة الخامس من حزيران (1967م)، تلك المعركة التي فوجئ العرب بنتائجها؛ إذ حصل ما لم يكن في الحسبان، ذهب الأقصى من أيدي المسلمين، وصار أسيرًا في يد أعداء العرب والمسلمين، وذهب ما بقي من فلسطين بعد معركة (1948م)، فخرج الناس بعد معركة حزيران يتفقدون أنفسهم، ويتلمسون مواطن الضعف فيهم..

لقد اعتمدوا فيها على أصدقاء ما وفوا بوعودهم، وعلقوا آمالاً على حبال ليس فيها حبل واحد لله تعالى؛ فكانت خسارة المعركة بداية لانطلاقة جديدة، يعبر عنها رجل الشارع والإنسان العادي بقوله: "ليس لنا إلا الرجوع إلى ديننا". وعبر عنها رئيس الوزراء المرحوم سعد جمعة بكتابه الذي جعل عنوانه: "الله أو الدمار". وكل من انقطع أمله من الناس والتجأ إلى الله بصدق أدركته رحمة الله، وآواه الله إليه، وأجاره من عدوه؛ فالله تبارك وتعالى يقول: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) [النمل:62]، ويقول عز وجل: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) [يوسف:110]. ومن منا لا يذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام لصاحبه في الغار: (لا تحزن إن الله معنا).

نعم.. بهذه النفسية الضارعة إلى الله، الواثقة بوعده، المتشبثة بحباله، دخلنا معركة الكرامة، كانت إرهاصاتها لا تخفى على الخبراء العسكريين، وكان الجرح ما يزال ينزف من ضياع فلسطين، وما زالت مفاجأة المعركة السابقة تصور العدو بأنه الذي لا يقهر، لكن ليس لنا خيار في دخول المعركة، فقد غزينا في عقر دارنا، حيث نساؤنا وأعراضنا ومساجدنا وما بقي من كرامتنا، فلا بد من تحقيق نصر أو تقديم العذر إلى الله والأمة بالاستشهاد.  

هكذا كانت نفسية كل مقاتل على الجبهة، وبهذه العزيمة دخلنا المعركة، وكانت ساعات طويلة شديدة حاسمة يتردد في أرجاء غور الأردن وشعاب وديانه نداء: الله أكبر، المنية ولا الدنية، يا جند الله دافعوا عن أوطانكم وأعراضكم، يا أبناء الصحابة الرابضين في الغور إلى جوار أبي عبيدة، وضرار بن الأزور، وشرحبيل بن حسنة، ومعاذ بن جبل، الذين أكرم الله أرضنا بأن تكون مستقرًّا لهم.

بصدق أقول؛ لأني كنت شاهدًا، وكنت مرشدًا دينيًّا للوحدات التي خاضت المعركة، وكنت أخالطهم كل يوم، فأتحدث معهم ويتحدثون إليَّ لا يكتمونني سرًّا، ولا أدخر عنهم نصيحة: كنا جميعًا مصرين على أن نحمي هذه الأرض أو نموت دونها، وكنا مصرين على أن نأخذ بالثأر إذا أتيحت الفرصة، وهاهي قد أتيحت، وكنا نرى أن أقوى سلاح في أيدينا هو الإيمان والثقة بالله، والاقتداء بشهداء الأمة، ابتداء من حمزة وجعفر، ومرورًا بالمشاهير من رجالات الأمة، وانتهاء بالنماذج القريبة الذين لقوا ربهم شهداء، منهم من حقق ما يريد، ومنهم من لم يحقق، لكنه أبر بقسمه، وقدم عذره، وأعلاهم فينا نسبًا الحسين بن علي، شريف مكة، الذي ما فرط بفلسطين، وضحى من أجلها بالحجاز وطنه العزيز، واكتفى أن يلقى الله وقد دفن بجوار الأقصى.

كانت ساعات تذكرنا فيها كل المُثل العليا والنماذج السامية التي علمنا إياها ديننا وطبقها سلفنا الصالح، وما هي إلا ساعات حتى ترنح العدو أمام ضربات المؤمنين، وطلب وقف المعركة، وهو الذي لم يعهد عنه مثل هذا الطلب، وبعد أخذ ورد، وكر وفر، ومداخلات إقليمية ودولية، انسحب العدو من أرضنا، وترك قتلاه وبعض آلياته، وهو الذي تفرض عليه عقيدته أن لا يدع قتيلاً في أرض المعركة، وتحدث الناس عن أشخاص غرباء يلبسون البياض شاركوا إلى جوارنا في المعركة، وذكرونا بجند الله الذين قاتلوا مع الصحابة في بدر، وسواء كان هذا أو لم يكن، فإن النصر الذي تحقق كان كبيرًا ومعجزًا، وكان بفضل من الله وحده وتأييد منه عز وجل، إبقاء على كرامة أمة تنتسب إلى خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم.

كان يوم الكرامة يومًا حامي الوطيس، فاز فيه بعضنا بالشهادة، وبقي آخرون ينتظرون جولات قادمة، لكن بمعنويات أعلى من ذي قبل، وبثقة أكيدة بأن الله لن يضيع هذه الأمة، ولن يضيع الجيش المصطفوي، هكذا سماه مؤسسه الملك عبدالله الأول عليه رحمة الله، ولهذا الجيش حظ جزيل من اسمه المبارك، جدير بأن يؤيده الله وينصره.

ومن الأمور التي تلفت الانتباه أن المعركة كانت على مقربة من مخيم فيه اللاجئون سنة (48)، والنازحون سنة (67)، يسمى مخيم (الكرامة)، وفعلاً استردت الأمة في هذه المعركة كرامتها وهيبتها، فكان لها حظ من اسم تلك الأرض.

لم تكن معركة الكرامة الأولى في تاريخنا، ولن تكون الأخيرة، فنحن أمة مستهدفة؛ لأننا أمة الحق الذي لا اعوجاج فيه، والصدق الذي لا نفاق معه، ومن كان كذلك لا بد أن يكون مستهدفًا من الباطل وأهله، ولكن الله معنا؛ لأنه الحق، ونحن على الحق، والدنيا يوم لك ويوم عليك، وأمتنا شعارها القديم الجديد الخالد الماجد: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].

وبهذه المناسبة أرفع إلى مقام صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله أسمى التهاني، فقد أضافت معركة الكرامة إلى أمجاد آبائه صفحة جديدة سيذكرها الناس بكل اعتزاز. وأترحم على زملائي شهداء الكرامة، وأحيي من بقي منهم حيًّا بعدها. وأهيب بالجيش المصطفوي أن يمضي إلى غاياته النبيلة، واثقًا بوعد الله عز وجل.

 

(*) مقال منشور في نشرة (الإفتاء) التي تُصدرها دائرة الإفتاء العام، العدد التاسع، ربيع ثاني (1431هـ)، نيسان (2010م).