المولد الشريف فرصة للمحاسبة والتقويم

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 28-01-2013


 

في ذكرى المولد النبوي الشريف يتذكر المسلم رحمة الله الواسعة، إذ منَّ علينا برسول منا يتلو كلام الله، ويهدينا بهدى الله، ويُخرجنا من الظلمات إلى النور.

وإذا كان على قَدْرٍ من الثقافة وسعة التفكير أَخَذَ يُقارن بين ما كان عليه حال الناس قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وما آل إليه حالهم بعد بعثته الشريفة، وأخذ يُقيِّم الأمجاد العريضة التي ورَّثها هذا النبي الكريم لأمته، في كل مجال من مجالات الحياة، ويتصور ماذا سيكون حال الناس اليوم لو لم يُبعث فيهم هذا الرسول العظيم...

لقد طهَّر الشعور فلم يعد المسلم يخشى إلا الله، ولا يرجو الخير إلا منه...

وطهَّر الاعتقاد عندما رسَّخ فيه أنه لا إله إلا الله...

وطهَّر المجتمع عندما أشعر أفراده بالأخوَّة التي تعني وجوب تكافؤ الفرص للجميع، والاحترام المتبادل للجميع، وشعور كل واحد بأنه لا غنى له عن أخيه...

وطهَّر الضمائر فلم تعد تقبل إلا بالعدل، ولا تُذعن إلا للعدل، وصارت هذه المبادئ بدهية في ذهن المسلم لا يقبل غيرها، ولا يؤمن بسواها...

وقد خرج الآباء يدعون إليها ويجاهدون في سبيلها، فوحَّدوا شعوبًا متنافرة، وعلَّموا أممًا جاهلة، وأنصفوا طبقات مظلومة، وردعوا أخرى متسلطة، فعُرفوا بالعدل والعلم، وعُرف بهم العدل والعلم، وظل لهم الذِّكْر الحميد، والثناء العطر، حتى بعد انحسار قوتهم العسكرية في السنوات العجاف الأخيرة.

نعم... هذه الخواطر تساور المسلم وهو يعيش ذكرى ميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فيذكر قول الله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/107، وقوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الجمعة/2.

ولا بد أن يتتابع التفكير، وتتوارد الخواطر؛ حتى تُلِمَّ بما نحن فيه اليوم... لقد جمع محمد صلى الله عليه وسلم الشمل، وها هو يتفرَّق مرة أخرى! وعلَّم بعد جهل، وها هو الجهل يعود من جديد!

لقد ضلَّ الإنسان مكانه في الوجود، وظنَّ أنه خُلق ليأكل ويشرب وينام، ثم يستيقظ ليأكل ويشرب وينام... هكذا دواليك، حتى وهو يعمل فإنه يعمل ليكون مرفَّهًا في مأكله ومشربه ومنامه، ثم ماذا؟! يطويه العدم، ولا يُغني عنه ما تلذَّذ به في الدنيا، أما حقُّ الله فقد يغفل عنه، أما واجبه تجاه الآخرين فلا يعرف عنه شيئًا، وإن عرف تجاهل! ولا تسل عن المظالم الفردية والجماعية حتى بين الأمة التي بُعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم. فما الحل؟!

إن انتظارَ نبيٍّ منقذٍ جديدٍ كُفْرٌ، ومغاير للعقيدة التي جاء بها صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب/40، فما الحل إذن؟!

إن الرسول بشر لكن يُوحى إليه:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فُصِّلت/6، فإذا بقي الوحي فكأنما بقي الرسول نفسه عليه السلام، وقد بقي الوحي -والحمد لله- فها هما القرآن والسنة محفوظان إلى يومنا هذا؛ لأنهما حجة الله على العالمين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ) رواه مالك.

وإذا كان الأمر هكذا فإن انتظار منقذ من عالم الغيب -ولو غير نبي- نوع من التواكل والكسل والتخلي عن المسؤولية، وأيسر ما يقال فيه: عدم معرفة بوجه الصواب.

إن فَقْدَ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لا بد منه لأنه بشر. وقد نبَّهنا الله إليه كثيراً حتى لا نُفاجأ، وحتى نتخذ الأهبة اللازمة لذلك. قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/144. وكان أبو بكر رضي الله عنه يقظًا لهذه الحقيقة؛ فلم يُفاجأ عندما أُبلغ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أخذ زمام المبادرة، وأعلن للجميع الحقيقة، وبدأ بعمل ما يجب عمله في حال غياب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحاقه بالرفيق الأعلى.

ونحن اليوم نشكو والدواء بين أيدينا! وبعضنا يريد الأمور ممهَّدة كأنه يريد أن يُحرَم ثواب الجهاد، والشهادة، والصبر، والمعاناة، والعمل، والإخلاص!

صحيح أن الأمر ليس بالهيِّن، لكن لا ننسى أن الله لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها، ولا يسأل عبدًا إلا عما آتاه... وأقل ما يمكن أن يعمله المسلم ليحافظ على النعمة التي ابتلاه الله بها بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يُقوِّم سلوكه وفقًا لما جاء به صاحب الذكرى عليه السلام؛ حتى يكون نسخة صادقة عن الكتاب الذي نزل على رسول الله، والسُّنة التي رويت عنه، ويكون مُعبِّرًا في كل تصرفاته عن الدين الذي يؤمن به، وهذا ممكن، ولو لم يكن ممكنًا لما كلَّفنا الله به.

ومما يُعين عليه أن يتخذ الإنسانُ رفاقًا هذا منهجهم في الحياة، ويشد أزره بصحبة مَن صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلاً؛ فإن يد الله مع الجماعة، والمسلم قوي بأخيه، وهذه النخبة الصالحة كثيرة والحمد لله وخاصة بين المجاهدين، الذين نذروا شبابهم وحياتهم لتظل كلمة الله هي العليا.

وقد تكون لدى الإنسان طاقة أكبر؛ فيكون سببًا لهداية غيره، فـ(الدّالّ على الخَيْرِ كَفاعِلِهِ) رواه الترمذي، و(لأنْ يهدي اللهُ بكَ رجلاً واحداً؛ خيرٌ لكَ مِنْ حُمُرِ النَّعَم) متفق عليه. هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم.  

وأسوأ ما يفعله المسلم أن يُنفِّر الناس من الإسلام بسلوكه، وأن يكون نسخة مُحرَّفة عن الإسلام، وصورة مشوهة عن الدين، أولئك هم قُطّاع الطريق على عباد الله، الذين يصدون عن سبيل الله!

لقد شدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم النكير على الذين يأكلون الدنيا بالدين فقال:(مَنْ تعلَّم علمًا ممّا يُبتغى به وجه الله، لا يتعلَّمه إلا ليُصيب به عَرَضًا مِن الدنيا؛ لم يجدْ عَرْفَ الجنّة يومَ القيامة) رواه أبوداود وابن ماجه؛ أي لا يشم رائحة الجنة.

هذا في الذي تعلم، أما الجاهل الذي يتكسب بالدين فهو أضل وأخزى؛ لأنه عالة على الإسلام: تَرَكَ ثواب الآخرة الباقية لأجل عَرَضٍ من الدنيا الفانية، وجَعَلَ ما استشهدوا من أجله سلعة تُباع وتُشترى، وكم آذتْ هذه الطفيليات الإسلامَ والمسلمين حتى حصدها منجل المنون، وقدِموا على الله ليحاسبهم على سوء ما فعلوا بتَرِكَةِ محمد صلى الله عليه وسلم، وتبعهم احتقار الناس، وازدراء المؤمنين الذين لا يلتبس عليهم المخلص بالمتكسب، والعامل بالخامل؛ فقد جعل الله في قلوب الأمة نورًا فطريًّا يعرفون به هذا من ذاك.

إن دينَ محمد صلى الله عليه وسلم وتركته وأمجاده التي خلَّفها لنا جديرة أن نبذل في سبيلها الغالي والنفيس، والدماء والأموال، ونُتعب الأجسام، ونُسهر العيون، ونرد كيد المرتدين والفاسقين والكافرين والضالين والمنحلين، ونُقدِّم من أنفسنا نموذجًا صحيحًا عن الإسلام العظيم.

لقد أورثنا أرضًا وبلادًا وإخوانًا وأنصارًا ومبادئ وعقائد، وجعل ذلك كله أمانة في أعناقنا، ورثناها جيلاً بعد جيل؛ فليكنْ احتفالنا بالمولد الشريف بإحياء دين المصطفى صلى الله عليه وسلم في القلوب والنفوس والعقول والسلوك، ولنبذلْ في سبيله بسخاء لتظل الراية خفاقة، وتظل كلمة الله التي بعث بها محمدًا صلى الله عليه وسلم عالية في الأرض.

لقد طلعتْ بالمولد الشريف شمسُ الإسلام ولن تغيب، فطوبى لمن كان وفيًّا لمحمد ودينه العظيم، أولئك الذين يرِدون عليه الحوض، ليكونوا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

 

(*) مقال منشور في مجلة (التذكرة) التي تُصدرها مديرية الإفتاء العسكري.