المسجد الأقصى

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 02-05-2012


 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإن الله تعالى أكرم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة، بلغت من كثرتها أن جمعها أحد العلماء في مجلدين كبيرين تحت عنوان: "حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين"، وها نحن معاشر المسلمين نحتفل بذكرى معجزة الإسراء والمعراج، ولا نحتفل بغيرها من المعجزات، وما ذلك إلا لنعمق جذور الأقصى في قلوبنا، فإنه منتهى الإسراء وبداية المعراج، وأضعف الإيمان أن لا يُغلب المسلم على قلبه وعقيدته، ومن قناعات القلوب ومسلَّمات الإيمان تنبعث الأعمال الجليلة.

وجذور الأقصى في قلوبنا جذور إيمانية راسخة:

وأول هذه الجذور:أن الله تعالى أسرى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليه، في رحلة معجزة خارقة، وكل مسلم يعرف هذا من قول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) الإسراء/1.

ومعلوم أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض وأشرفها، فالإسراء منه إلى مكان آخر يعني أن هذا المكان الآخر له شأن وشرف لا يغني عنهما أن يكون الإنسان في مكان آخر أكثر قداسةً وشرفاً، ولهذا سعى المسلمون عندما تهيأت الفرصة في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بيت المقدس سعياً مادياً، بعد أن سعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم سعياً إعجازياً، ومن هنا نُعظِّم نحن المسلمين الأقصى، ونحرص على قدسيته حرصنا على المسجد الحرام.

ثانياً: إن المسجد الأقصى هو سرة الأرض المباركة التي سكنها قوم أفسدوا في الأرض مرة بعد مرة، وعاقبهم الله بعد كل مرة، فحُقَّ أن تليها أمة شعارها:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) النحل/90.

وهكذا كان.. لقد أورثها الله بالإسراء إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وأقرَّ بهذا كلُّ الأنبياء عندما اقتدوا به في صلاتهم بالمسجد الأقصى، ولهذا نلاحظ أن الله تعالى أتْبَعَ خبر الإسراء بخبر الذين آتاهم الكتاب فما عملوا به، وأفسدوا في الأرض.

ثالثاً:من الأقصى عُرج بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، وإلى سدرة المنتهى، ومن هناك عاد بالفريضة اليومية، فريضة الصلاة التي تتكرر كل يوم خمس مرات على الأقل.

ونحن نعلم أن أبواب السماء كثيرة، منها الباب الذي هبط منه جبريل عليه السلام إلى غار حراء، فاختيار الباب المسامت للصخرة المشرفة يجعل المسلم يتذكر الأقصى في كل صلاة، كيلا يغيب عن البال، فهو مقبل على أحداث جسام، ويجب أن يبقى حاضراً في أذهان المسلمين.

رابعاً: المسجد الأقصى أولى القبلتين، وهذه حقيقة يعرفها كل مسلم، فقد ثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل بعد الهجرة إلى المدينة المنورة ستة عشر شهراً يتوجه في صلاته إلى الأقصى، ثم وجَّهه الله إلى قبلة يرضاها، قال تعالى:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) البقرة/144. والقبلة معناها: الشاخص الذي عظَّمه الله فأمر المؤمنين أن يتوجهوا إليه في صلاتهم ليُشعرهم بعظمته.

وشرف القبلة لا يزول بالتحول إلى قبلة أخرى، ومكانٌ توجه إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في صلاته، وتوجه معه الصحابة الكرام، هو مكان معظَّمٌ ومقدَّسٌ عندنا إلى قيام الساعة، وقدسيته من جنس قدسية الكعبة، وكما يغار المؤمن على الكعبة يجب أن يغار على الأقصى.

خامساً: الأقصى ثالث الحرمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) رواه البخاري ومسلم.

فكل المساجد - سوى هذه الثلاثة - سواء في الفضيلة، وهذه الثلاثة مميزة بالقداسة والاحترام، فالحرم هو المكان المحترم عند الله وعند عباده الصالحين، والمسلم كما يُعظِّم المسجد الحرام في مكة المكرمة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، يجب أن يُعظِّم المسجد الأقصى في القدس الشريف، ويذود عن حياضه.

سادساً: إن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمئة صلاة، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا حرص السلف الصالح على المجاورة في القدس، ووقفوا من أجل ذلك الأوقاف الكثيرة لينالوا الأجر المضاعف، وليكونوا على أهبة الاستعداد للذود عن الأقصى وحمايته، ولذا كان أهل بيت المقدس ومَن في أكنافه مرابطين إلى قيام الساعة.

سابعاً: نحن أمة لا نُفرِّق بين أحدٍ مِن رُسل الله عليهم السلام، نؤمن بهم جميعاً، ونلتزم بشريعة الله تعالى، المُنَزَّلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن شريعته: احترام جميع الأنبياء عليهم السلام.

ومن هنا فكل أثر في القدس يُنسب إلى أي نبي من الأنبياء هو أثر عزيز علينا، تبعاً لمحبتنا لذلك النبي عليه السلام.

وهذه حقيقة عقدية انفردت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا جعلهم الله شهداء على الناس، وورثة لجميع الأديان، وأمناء على مقدساتها.

لهذا الاعتبارات الإيمانية كان الأقصى والأرض المباركة من حوله عزيزين على قلوب المسلمين، ومن أجل هذا تسابقوا إلى عمارة القدس بكل أنواع العمارة المادية والمعنوية، وحرص كل مَن تولَّى أمر القدس الشريف على أن يكون له فيها أثر يشهد له بين يد الله،  وتَذْكُرُه به الأجيال من بعده، هكذا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وولاة أمور المسلمين إلى زمننا هذا، وكلنا يعرف ويقدر العمارة الهاشمية في القدس، من أيام الشريف الحسين بن علي، الثاوي في الحرم القدسي عليه رحمة الله، إلى أيام الملك الحسين طيب الله ثراه، الذي كسا قبة الصخرة بالصفائح الذهبية، إلى عهد الملك عبد الله الثاني حفظه الله، الذي أعاد بناء منبر صلاح الدين، وأعاده إلى مكانه في الأقصى، وأمر ببناء مئذنة جديدة في المسجد الأقصى. فلهم من الله عظيم الأجر والثواب، ومن الأمة الإسلامية جزيل الشكر وصادق العرفان.

نعم، هذه جذور الأقصى في قلوب المسلمين، فهو راسخ في ضمائرنا، لا يغيب عن بالنا ما دمنا نقرأ قول الله تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1.

 

(*) كلمة ألقاها سماحة الدكتور نوح القضاة رحمه الله في (المجالس العلمية الهاشمية) التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، تم تحريرها للنشر.